عجائب الأنظمة لا تنقضي، فهي لا تنتظم على سَنَنٍ مُطرد، فالتشدد في اشتراطات ومحترزات أمر ما في نظام يقابله تساهل في اشتراطات ما هو أهم منه في نظام آخر، أمثلةٌ عجيبة تحفل بها أنظمتنا التي تفرق بين المتماثلات وتسوّي بين المختلفات. كتبت في مقال سابق أن الأنظمة وُجدت لتيسير حاجات الناس، غير أن بعضها تُعقّد على الناس حياتهم حتى تكون تمام المصلحة في إلغائها. ومع صدور نظام المرافعات الجديد يحسن التأكيد على هذا المعنى مرة أخرى، إذ من محاسنه أن تضمن مرسومه الملكي إلغاء فقرتين من نظام المحكمة التجارية متعلقتين بالاختصاص وهما: 2/د: متى كان المقاول متعهداً بتوريد المؤن والأدوات اللازمة لها و3: أن دعاوى العقارات وإيجاراتها لا تعد من الأعمال التجارية. ولأن أكثر القراء من غير المتخصصين لا يعرف ما تسببه هاتان العبارتان من إشكالات، فسأبسط ما تفيدانه من أحكام مسائل الاختصاص: الأصل أن المحكمة التجارية هي المختصة بمنازعات التجار ومنهم المقاولون، فإذا تقدم مقاول بدعوى إلى المحكمة فإن كان خصمه مالكاً للعقار أو مستأجراً له حكمت المحكمة بعدم الاختصاص، وإن كان الخصم مقاولاً آخر نظرت المحكمة: هل المقاول متعهداً بتوريد المؤن والأدوات أم لا، فإن لم يكن حكمت بعدم الاختصاص، وإن كان متعهداً بتوريد المؤن والأدوات نظرت المحكمة في موضوع الدعوى. هذه التفصيلات التي لا داعي لها نشأت مع صدور نظام المحكمة التجارية في عام 1350ه - أي قبل توحيد المملكة - ولسبب غير معروف صمدت هذه التعقيدات على مرّ الأجيال من دون تغيير، حتى أطاح بها زلزال التطوير القضائي الذي كان من القوة بالقدر الكافي لاستبدال كل الأنظمة القضائية ومنها هاتان الفقرتان. غني عن الذكر أن عجائب الأنظمة لا تصاحبها الطرافة، بل تدعو إلى العمل الجاد الحثيث لرفع العنت عن المواطنين الذين تعلقت مصالحهم ومعايشهم بأنظمة يعتقدون بأنها تدور مع مصالحهم وجوداً وعدماً من دون اعتبار لأي شيء آخر. * قاضٍ في ديوان المظالم سابقاً. [email protected]