مايكروسوفت تعتزم إنفاق 80 مليار دولار أمريكي على مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في السنة المالية 2025    بعد انتشاره في الصين ..مختصون يوضحون ماهية فيروس HMPV ومدى خطورته    طقس شديد البرودة مع تكوّن الصقيع على عدد من مناطق المملكة    مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية الخامسة لمساعدة الشعب السوري    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    عُمان أمام البحرين.. دوماً في أمان    ترامب يشتكي من تنكيس الأعلام في يوم تنصيبه    افتتاح طريق التوحيد بمنطقة عسير    «ظفار» احتضنهما.. والنهائي يفرقهما    ريال مدريد ينتفض في الوقت الضائع ويهزم فالنسيا ب 10 لاعبين    وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الدعوة يزور فرع الوزارة في جازان ويتابع سير العمل فيه    ميلان يقلب الطاولة على يوفنتوس ويتأهل لنهائي السوبر الإيطالي    الأخضر السعودي تحت 20 عاماً يكسب أوزباكستان وديّاً    جمعية التنمية الأسرية تعرض خدمات مركز الأنس بصبيا    حازم الجعفري يحتفل بزواجه    الأرصاد: حالة مطرية بين المتوسطة والغزيرة على مناطق المملكة    أمير عسير يستقبل رئيس جمهورية التشيك في بيشة    غرفة جازان ومركز الإنتاج الإذاعي والتلفزيوني يعززان شراكتهما لدعم التنمية الإعلامية في المنطقة    وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون الدعوة يزور مسجدي التابوت والنجدي الأثريين بجزر فرسان    مدير الأمر بالمعروف يزور مدير فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    الشرع يبحث مع ميقاتي العلاقات بين سوريا ولبنان    حرس الحدود يحبط تهريب (56) كجم "حشيش" و(9400) قرص من مادة الإمفيتامين المخدر    انطلاق ملتقى الشعر السادس بأدبي جازان الخميس القادم    موقف الهلال من قيد نيمار محليًا    العُلا تستضيف نخبة نجوم لعبة «البولو»    انطلاق فعاليات النسخة الرابعة من مهرجان الفقع بمركز شري    خطيب المسجد النبوي: نعم الله تدفع للحب والتقصير يحفز على التوبة فتتحقق العبودية الكاملة    القيادة تعزي الرئيس الأمريكي في ضحايا الحادث الإرهابي الذي وقع في مدينة نيو أورليانز    وصول الطائرة الإغاثية السعودية الرابعة لمساعدة الشعب السوري    «الجمارك» تُحبط 3 محاولات لتهريب أكثر من 220 ألف حبة محظورة    لحظات رياضية سعودية لا تُنسى    مظلات الشحناء والتلاسن    دول الخليج.. حرص على بناء سورية الجديدة    الكلية الأمنية تنظّم مشروع «السير الطويل» بمعهد التدريب النسائي    كيف تتجنب ويلات الاحتراق النفسي وتهرب من دوامة الإرهاق؟    لتعزيز سعادتك وتحسين صحتك.. اعمل من المنزل    5 أخطاء شائعة في تناول البروتين    كيف ستنعكس تعديلات أسعار اللقيم والوقود على الشركات المدرجة؟    الغضراف    ذلك اليوم.. تلك السنة    خشونة الركبة.. إحدى أكثر الحالات شيوعاً لدى البالغين    عبير أبو سليمان سفيرة التراث السعودي وقصة نجاح بدأت من جدة التاريخية    عام جديد بروح متجددة وخطط عميقة لتحقيق النجاح    محمد الفنتوخ.. الهمّة والقناعة    الصراعات الممتدة حول العالم.. أزمات بلا حلول دائمة    سوق العمل السعودي الأكثر جاذبية    لماذا لا تزال الكثيرات تعيسات؟    الأكراد.. التحديات والفرص    ابتسم أو برطم!    عام الأرقام والتحولات الكبيرة السياسة الأمريكية في 2024    1.3 مليون خدمة توثيقية.. عدالة رقمية تصنع الفارق    سُلْطةُ الحُبِّ لا تسلّط الحرب    السعودية تأسف لحادثة إطلاق النار التي وقعت في مدينة سيتينيي بالجبل الأسود    استقبله نائب أمير مكة.. رئيس التشيك يصل جدة    محافظ محايل يلتقي مدير عام فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية    المملكة تنظم دورة للأئمة والخطباء في نيجيريا    أمين الرياض يطلق مشروعات تنموية في الدلم والحوطة والحريق    نائب أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الرياضة بالمنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



« الاعترافات» لجان جاك روسّو: تاريخ للإنسان عبر تعرية الذات
نشر في الحياة يوم 15 - 10 - 2011

لئن قدّم جان جاك روسو، كفيلسوف وعالم اجتماع، بفضل كتابه التربوي «اميل» من ناحية، ثم بفضل كتابه «العقد الاجتماعي» من ناحية ثانية، فإننا إذا نظرنا اليه من خلال «الاعترافات» قد نميل إلى اعتباره أديباً، بل واحداً من المجدِّدين في الكتابة عن الذات، وإن كان غوته مال دائماً الى المقارنة بينه وبين «فيلسوف خالص» مثل فولتير، إذ قال: «مع فولتير فإن العالم القديم هو الذي ينتهي، اما مع روسو فإن عالماً جديداً يبدأ».
وفي اختصار، يمكن القول إن الكتابة الأدبية (والفنية في ركابها) تغلب على كتابات روسو، ومع هذا علينا ان نلاحظ ان كتابيه الأدبيين الرئيسيين «الاعترافات» و «أحلام متنزه وحيد» لم ينشرا إلا بعد وفاته، وإنْ كان كَتب بدايةَ أولِهما قبل رحيله بسنوات عدة.
و «الاعترافات» يُعتبر اليوم كتاباً أساسياً في مجاله، من ناحية لأن روسّو قدّم فيه أدبه من وجهة نظر لا تتراجع امام البوح وتعرية الذات، ومن ناحية ثانية لأن روسو في معرض تأريخه لذاته، أرّخ للإنسان ولوجود الإنسان وتكوّن فكره في هذا العالم. بيد ان العنصر الرئيسي الذي يطغى على الكتاب انما هو عنصر «البارانويا»، او عنصر (رهاب) الاحساس بالاضطهاد والمطاردة. وهذا الشعور، الذي وصل مع روسو الى حدود مرضية خلال فترات عدة من حياته، كان في الواقع في خلفية الكثير من كتاباته. ولئن كان قد انغرس في اعماقه منذ وقت مبكر، بسبب ظروف حياته، التي يصفها لنا راسماً مبرِّراً مفسِّراً في «الاعترافات»، فإن شعور الاضطهاد هذا تفاقم لديه منذ خلافه العميق مع جماعة «الموسوعيين»، لا سيما ديديرو وغريم، وهو خلاف تختلط أسبابه الذاتية والموضوعية بعضها ببعض. وروسو يتحدث في «الاعترافات» عن هذا كله، حديثه عن عدد كبير جداً من الأحوال والآراء والمواقف التي تملأ كتاباً عاش - ولا يزال - طويلاً من بعد صاحبه. وهنا، قد يكون مفيداً ان نذكر ان روسو حين كتب «الاعترافات» على مدى نحو 12 سنة من حياته، كان يريد له ان يحاط بسرية تامة «ألاّ يعرف وجوده إلاّ بعد موته، لكنه هو بنفسه «أفشى سر» الكتاب، إذ راح يقرأ منه فصولاً هنا وفصولاً هنالك، ويتحدث عنه واعداً مهدِّداً، ما أثار المزيد من عداء الآخرين له، وزاد من شعوره بالاضطهاد.
وتعود فكرة روسو بوضع كتاب «الاعترافات»، الذي حمل اسماً كاملاً هو «اعترافات جان-جاك روسو الحاوية تفاصيل أحداث حياته وأحاسيسه الدفينة في جميع المواقف التي واجهته»، الى العام 1764، حين راح المرض الجسماني والنفساني يشتدان عليه معاً، وبدأ يخوض صراعاً عنيفاً ضد القساوسة السويسريين، الذين ردّ على هجومهم عليه إثر وضعه كتاب «مجاهرة الخوري السافواني بالإيمان»، تالياً ل «إميل» و «العقد الاجتماعي»، ردّ بكتابه «رسائل مكتوبة من الجبل». غير أنه اضطر الى تأجيل فكرة كتابة «الاعترافات» سنتين بعد ذلك، حين تمكن من الهرب من مطارديه وطالبي محاكمته، ليصل إلى إنكلترا، حيث دعاه للإقامة عنده فيلسوفُها التنويري الكبير ديفيد هيوم. وهناك بدأ روسو يخطّ فصول «الاعترافات»، ولكن هذه المرة... تحت ضغط الشعور بأن هيوم بدوره يشارك في المؤامرة ضده. وهكذا، بعد أن كتب فصولاً من الكتاب، عاد روسو الى فرنسا متنكِّراً، وراح يكتب المزيد من الفصول الأكثر جرأة. وفي العام 1770، أحس بشيء من الأمان فراح يتجول في الصالونات الباريسية قارئاً فصولاً من اعترافاته، وأدهشه يومها أنها لم تثر اهتمام أحد، فكتب نصاً ذاتياً جديداً وغريباً عنوانه «المحاورات: روسو يحاكم جان جاك». ولم تكن بقيت له سنوات كثيرة يعيشها، ولا أعمال فلسفية اضافية يدبِّجها، بل مجرد «مذكّرة» تبسيطية وجَّهها الى الأمة الفرنسية، ونصٍّ استكمل فيه اعترافاته، التي كان الكتاب الأول اوقفها عند العام 1766. ولكن ما الذي في تلك الاعترافات؟
في كل بساطة، حكاية حياة الكاتب كما دوّنها بنفسه. واللافت ان النص، على ما فيه من اتجاهات تبريرية تحاول «فضح الآخرين»، جاء صادقاً الى حد كبير، ولكأن روسو حين جلس مرات ومرات ليدوّن مجريات حياته ويبرر مواقفه ويشرح خلفيات أخطائه في حق نفسه وفي حق الآخرين، لم يشأ ان يغلّف الحقيقة بأي زينة أو طلاء. كان يعرف -كما يبدو- أنه حيث ينشر الكتاب سيكون هو قد رحل، ولن يؤاخذه احد على ما اقترف غير رب السماوات الذي آمن به دائماً خارج اطار الدين. ولعل ذلك البوح، في جيّده وسيّئه، هو الذي جعل نيتشه يقول إن «روسو هو ذلك الرجل العصري الأول، المثالي والوغد في شخص واحد، المريض بقرف مسعور من ذاته، ذلك الطرح الذي ضرب أطنابه عند عتبة الأزمنة الحديثة»، فيما قال عنه الناقد المعروف تين: «كان مشغولاً بنفسه حتى الهوس، ولا يرى في العالم غير ذاته، ويتخيل الانسان على منوال ذاته». والحقيقة ان في «الاعترافات» ما يبرر هذا كله.
يتناول روسو في «الاعترافات» حكاية حياته منذ مولده وحتى العام 1766. ويقول لنا النص إنه فرنسي الأصل ولد في جنيف السويسرية وسط بيئة بروتستانتية. ماتت امه يوم ولادته، فرعاه أبوه الساعاتي ذو المزاج الغريب، وهكذا نشأ الطفل متوجهاً نحو الضلال، وكان ذا وعي مبكر، شديد الحساسية والكسل. وحين شب عن الطوق التقى براهب كاثوليكي فقال له إنه تواق لاعتناق الكاثوليكية. وبعد ذلك التقى بالسيدة دي فارن، التي أحبته ورعته وتقلبت علاقته معها طوال سنوات، ويصفها روسو بدقة وبوح مدهشين. وهو صار عشيقاً للسيدة مذ صار في الحادية والعشرين، لكنه إذ توجه يوماً الى غرونوبل، التقى سيدة اخرى هي دي لارناج، فوقعت في غرامه، وحين عاد الى السيدة الأولى وجد انها تخلت عنه. مع ذلك استمر مقيماً عندها وبدأت اهتماماته الموسيقية التي لم تُقنع احداً سوى جماعة الموسوعيين، حيث طلب منه ديديرو ان يكتب المواد الموسيقية للموسوعة. ثم وسّع من اهتماماته فراح يكتب في فلسفة الفنون ووضع أوبرا، ثم كتب رسالة حول الموسيقى الفرنسية اعطى فيها الصدارة للموسيقى الإيطالية، قبل أن يشرع في اهتماماته الفلسفية ويكتب في «اصل التفاوت بين البشر». إثر ذلك، عاد الى جنيف وإلى البروتستانتية مثيراً حنق الكاثوليكيين، وحين عاد لاحقاً الى باريس، شعر أن عليه الآن ان يواصل رسالته الفلسفية والاجتماعية، فوضع تباعاً كتبه الثلاثة الهامة والأشهر «ايلوئيز الجديدة» و «العقد الاجتماعي» و «إميل». والكتابان الأخيران صودرا فور نشرهما (عام 1762)، بل إن «إميل» أحرقت نسخه علناً فيما كان روسو في طريقه للهرب الى بيرن وقد ازداد شعوره بأنه مطارَد ومضطهَد. في تلك الفترة بالذات، راح يستكمل كتابة آخر فصول «الاعترافات»، فيما راحت حياته تزداد تعقّداً، من ناحية بسبب علاقاته النسائية والاجتماعية المتتالية، ومن ناحية أخرى بسبب صراعاته مع أقرانه من المفكرين. ومن الواضح ان روسو حين انجز كتابة فصول «الاعترافات»، هدأ بعض الشيء، من دون ان تهدأ حياته نفسها.
كما أشرنا، تغطي فصول «الاعترافات» حياة روسو حتى العام 1766. والنص يتألف من 12 كتاباً، نشرت على دفعتين: 6 كتب في العام 1781، ثلاثة أعوام بعد رحيل روسو بائساً مستوحشاً حزيناً، والباقي نشر في العام 1788. والحقيقة، ان الكتاب منذ نشره أثار اهتماماً واسعاً، واعتُبر تجديداً في الكتابة عن الذات. اما الذين أرادوا ان يتابعوا ما جرى في حياة روسو بعد العام 1766 وحتى أيامه الأخيرة، فإنهم وجدوا ضالتهم في «احلام متنزه وحيد»، ذلك الكتاب الذي يقل أهمية وصخباً عن «الاعترافات»، مع انه يكمِّله، وفيه طرح روسو سؤاله الجوهري عما إذا كان قد أصاب في حياته حين اتخذ من الحقيقة شعاراً له.
مات روسو يوم 2 تموز (يوليو) 1778، بعد شهور قصيرة من إنجازه ذلك الكتاب الأخير.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.