الذكريات تأكل العقل أكلاً، تحوله إلى فتات، ثم تزدرده، وتلتهمه، وتحيله إلى اشتياق وحنين وندم. الشوق والحنين والندم تقتل صاحبها، ولو أن هذا المتذكر الذي يغرق في ذكرياته اختلط بمن يحبهم، أو استطاع إعادة عقارب الساعة للوراء لما وجد في نفسه هذا الشوق، ولأنكره من نفسه إنكاراً شديداً، كما تنكر الحوار الغريب أمه حين يضمه إليها صاحب الذود. الحنين في الإنسان أكبر خدعة قاتلة، يشوه الحاضر الجميل، ويبث الاشتياق إلى الماضي الحزين، فيصالح الإنسان أحزانه، ويسامح جلاديه، ولا تبقى له في شيء من وقته وآنه أي لذة. الحنين سيف يقص رقاب الحاضر والمستقبل، وهو كذلك لسان يقبل حذاء أمسه الجبار الغابر. إلى ماذا نتشوق ونتشوف حين نفكر في أيامنا التي كنا فيها بلهاء وأغبياء، ونحن نظنّ من حنينا الكذاب أننا كنا أبرياء؟ إلى ماذا نتطلع ونحن ننظر بعين العفو إلى ذلك الجار المؤذي، وتلك العجوز سليطة اللسان، ثم حين نقابلها الآن نقبل رأسها ونبكي ظناً منا أن ماضينا معها كان جميلاً، وكذلك نصنع بذلك الجار حين نقترب منه ونقف معه ونسكب دموعنا لشيخوخته وهو من كان يخاصمنا صباح مساء؟! ما كل ذلك إلا الحقيقة الماثلة لخدعة الحنين. إلى ماذا نحنُّ، ومن يستحق حنيننا ما دام الحنين نفسه كاذباً؟ وكيف نتحقق من صدق حنيننا ما دام هو من يغشنا ويمارينا ويتلاعب بعقولنا وحواسنا؟ الحاضر صعب لأنه مغلف بحجب الغيب، والخشية على المصير، والخوف من الفشل والمصائب المرتقبة، لكن المصائب التي تحدث فيه لن تصبح جميلة لمجرد أننا غادرناه وأصبح ماضياً. حين نفكر بهذه الطريقة ندرك كم هي الذاكرة مشرّكة ومفخخة وملغومة بلعبة الإيهام، إن الذاكرة هي لعبة الإيهام الكبرى، ونحن الواهمون كلما عانقناها، وما دمنا نعانقها في كل حين، فنحن الواهمون في كل حين. وفاء الصالح - جدة [email protected]