تابع الناس في المملكة العربية السعودية وخارجها جانباً من أعمال الشغب والتخريب التي صدرت عن فئة محدودة العدد في بلدة العوامية بمحافظة القطيف، وتنوعت المتابعات ما بين وسائل الإعلام التقليدية وعبر وسائط الإعلام الجديد سواء المواقع الإلكترونية أو اليوتيوب أو غيرها. وينبغي في هذا المقام ألا نتجاوز بيان وزارة الداخلية حول هذه الأحداث، فإنه على وجازته حوى مضامين مهمة يجدر التوقف عندها، ففيها رسائل لأطراف وجهات وأشخاص وأفراد، كل بحسبه، ولهذا حاولت بعض وسائل الإعلام الإيرانية والمواقع الإلكترونية الدائرة في فلكها التشكيك في البيان، وأنَّى لها ذلك. البيان اشتمل على رسائل ومضامين مهمة جداً، منها: - استخدم البيان المنطق الأبوي، إذ الحكومة بمقام الوالد لجميع المواطنين، والأصل في الأبوة الحلم والعطف والحنان، وهذا هو ما يفسر حرص القادة الأمنيين على ألا يسقط أحدٌ من المغرر بهم والإجراء لدى مواجهتهم، على رغم التمادي الذي حصل منهم في التخريب والإحراق وإطلاق النار وصنع ورمي قنابل المولوتوف. وهذا من الحكمة والثبات والشجاعة. لكن الأب لن يتردد في الإجراء الحازم مع أيٍّ من أولاده إذا أخل أحدٌ منهم بنظام البيت، ولنا أن نطلق لأذهاننا كل الاحتمالات التي سيحزم بها الأب نحو المفسدين من أولاده إذا كان إخلالهم بنظام البيت ليس عفوياً عبثياً، وإنما هو بدسيسة من ماكر متربص به وبأهل بيته، لا يتوقف مقصده عند الإخلال بنظام البيت، بل بمحاولة هدمه وتقويض أركانه، فهذا الأب الحاني الحالم العطوف إن تهاون مع هؤلاء الأولاد فهو مخطئ مقصر ملومٌ من بقية أهل البيت ومن الجيران ومن كل من تربطه به مصلحة مجيء لبيته أو مرور به، وحينها لن يتردد هذا الأب في حزم يصل إلى البتر والاجتثاث في سبيل الحفاظ على كيان بيته ونظامه. - بادر بيان وزارة الداخلية إلى تشخيص الداء ووصف الدواء، وبين أيضاً عواقب هذا المرض العضال وما سيئول بأصحابه من تورم غير حميد، بل هو خبيث بغيض. فالداء هو: أن تلك المجموعة من مثيري الفتنة والشقاق وبإيعاز من دولة أجنبية تسعى للمساس بأمن الوطن واستقراره قد أسلموا إرادتهم لتعليمات وأوامر الجهات الأجنبية الساعية للإخلال بأمن الوطن واستقراره. هذا هو الداء الذي حمل تلك المجموعة على ما قامت به بغض النظر عن الدوافع المادية أو الأيديولوجية أو غيرها، ولكنها بحسب قوانين الدول كافة (خيانة عظمى)، إذ إن الخيانة العظمى تعني بوضوح: عدم الولاء للدولة والعمل ضد مصالحها. وحتى لا يُظن أو يُدَّعى أن هذه شماعة أو دعوى مجردة، فإن أركان هذه الجريمة كما يقرره خبراء القانون يتحقق عند الاتصال بدولة أجنبية بهدف المس بالاستقرار في البلاد. وبيان وزارة الداخلية راعى هذا الجانب القانوني، ولكنه ولاعتبارات عدة لم يصرح باسم الدولة الأجنبية. والمتتبع لسياسة وزارة الداخلية في القضايا الأمنية، خصوصاً التي تتورط فيها جهات خارجية وعلى مدى نحوٍ من 36 عاماً أنها تقوم بجمع الأدلة والبينات الدامغة وتظهرها وقت الإدانة ملجمة لأي مكابر، كما أن نظرة عابرة على مواقع الإنترنت بأنواعها توضح قرائن تصل إلى حدِّ عرض المخطط وتفاصيله بين الأطراف التي جمعتها دائرة الخيانة. وينبغي ألا يغيب عن الذهن أن الخيانة العظمى جريمة تستوجب المحاكمة في جميع دساتير الدول، وتكون العقوبة بسببها شديدة قد تصل إلى الإعدام. ومن هنا جاء تشخيص الداء والعلاج البين والواضح في بيان وزارة الداخلية، إذ قال البيان: (وعلى هؤلاء أن يحددوا بشكل واضح: إما ولاؤهم لله ثم لوطنهم؛ أو ولاؤهم لتلك الدولة ومرجعيتها). - انطلق البيان من القاعدة الشرعية المصرح بها في القرآن الكريم في قول الله سبحانه: (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام/164] وقوله تعالى: (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الإسراء/15] ولذلك توجه البيان بالثناء على ما يؤكده وجهاء القطيف من الولاء للمملكة العربية السعودية التي يتفيأون خيراتها ولولاة الأمر فيها، وأنهم أمام الدولة لا يتحملون خطيئة شرذمة انشقت عليهم وخالفتهم. إلا أن هذا مشروط بالحقائق على أرض الواقع، والتي أفصح عنها البيان وحددها بأن تكون لهم المبادرات العلنية والواضحة في استنكار جرائم أبنائهم والتبرؤ منها جملة وتفصيلاً، وعدم قبول التبريرات بعبارات تحتمل المعاني المتعددة. ولهم خير أسوة في شيوخ القبائل ووجهاء المناطق عندما صدر من بعض أولادهم أعمال إرهابية فتتابعوا وفداً بعد آخر على مجلس خادم الحرمين معلنين تبرؤهم من أولادهم ومن صنيعهم مجددين صادق الولاء ، فإما أن يفعل ذوو المجرمين في العوامية كما فعل النبلاء في مناطق المملكة الأخرى، وإلا فكما قال الأول: الصيفَ ضيعت اللبن! وهذا ما نص عليه بيان الداخلية بأن الوزارة: (تهيب في ذات الوقت بذويهم من العقلاء ممن لا نشك في ولائهم أن يتحملوا دورهم تجاه أبنائهم، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وإلا فليتحمل الجميع مسؤولية وتبعات تصرفاته). - أكد بيان الداخلية على حقيقة لا مساومة فيها وهي أن هذا الوطن العزيز الذي مرَّ توحيده وإقامة كيانه بألوان من التضحيات الجليلة تحت قيادة الملك المؤسس الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، إذ بذلت فيها المهج والأرواح من عامة قبائل المملكة مسترخصةً في سبيل وطن ترفرف عليه راية التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله). وإن أبناء الوطن الغالي اليوم ومن كل القبائل والمناطق، من جنوبه إلى شماله ومن غربه إلى شرقه على أتم الاستعداد لبذل أرواحهم تحت قيادة ولاة الأمر الميامين للحفاظ على أمن واستقرار كل شبر من الوطن العزيز. وبإمكان تلك المجموعة المغرر بهم أن تلقي نظرة مختصرة على المواقع والصفحات على شبكة الإنترنت - والتي تفننت في استغلالها والتواصل من خلالها مع مراجعها - لتقرأ عدد وحجم ودلالات التعليقات على غوغائيتهم في القطيف والتي دونها الشباب السعوديون المخلصون لله ثم لولاة أمرهم ووطنهم، وكيف أن الشباب من كل مناطق المملكة لم يتمنوا الالتحاق في السلك العسكري الأمني في يوم مضى كما يتمنونه اليوم تقرباً إلى الله بطاعة ولي الأمر والحفاظ على الوطن واستقراره. بل إن عدداً لا يحصى من عقلاء الشيعة وأبناء القطيف النجباء أعلنوا صراحة تبرؤهم من أي شغب أو شقاق يصدر من أحد في منطقتهم، كائناً من كان صاحبه. وواضح أن تأكيد بيان الداخلية أن الحفاظ على الأمن والاستقرار خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه فضلاً عن تجاوزه، هو عمل بالقاعدة التي نص عليها الخليفة الراشد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ قال: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وجاءت تجلية هذه الحقيقة لهؤلاء المغرر بهم ولمن وراءهم في بيان وزارة الداخلية وأنها: (لن تقبل إطلاقاً المساس بأمن البلاد والمواطن واستقراره، وأنها ستتعامل مع أي أجير أو مغرر به بالقوة، وستضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه القيام بذلك). وأذكِّر هؤلاء المخدوعين ومن غرَّر بهم أن الأمن والاستقرار في المملكة العربية السعودية مسألة لا مساومة فيها ولا تساهل البتة، فأمن كل شبر من المملكة العربية السعودية واستقراره متلازم مع أمن الحرمين الشريفين، وهذا ما يجعل الشعوب الإسلامية في أرجاء الأرض في خندق واحد مع الحكومة السعودية من أجل كبت وقمع أي أحد يريد الإخلال بأمن واستقرار أي جزء من المملكة سواء بأيدي أُجَراء من الداخل أو مجرمين من لخارج، وليس ذلك لقصور في الإدارة الأمنية والضبط العسكري السعودي، كلا؛ إذ كل ذلك تام ومتطور بفضل الله، ولكنها المشاعر الإيمانية والوجدانية لمليار وأربع مئة مليون مسلم تناسى عددهم من أزَّه الشيطان للعبث بأمن بلاد الحرمين. - أوضح بيان الداخلية أن هذه المجموعة المجرمة قد استخدمت في مواجهة قوات الأمن أسلحة رشاشة وقنابل المولوتوف، وهذا له دلالات عديدة، فهو إذاً تهريبٌ وتخزينٌ للأسلحة، ومعه الاستعداد والتجهيز والتدريب، ولكن لمن؟ وضد من؟ في وطن ينعم أهله بأجهزة أمنية متعددة تسهر على الأمن في طول البلاد وعرضها؟ جواب هذا أتركه لمن أصفهم ويصفهم البيان، ب«ذويهم من العقلاء ممن لا نشك في ولائهم» إجابةً منهم مباشرة لا تحتمل أنصاف الحلول ولا متلوِّن الألفاظ. * داعية شرعي، وأكاديمي. [email protected]