كثيراً ما قرأت وسمعت من يقول:"ما لكم تكثرون من الكلام عن ديموقراطية الغرب وعندنا ما يغنينا من ديموقراطية عرفها الأسلاف الأوائل!"، وإذا ما قلت لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، جاؤوك ببضع كلمات تروى عن الشيخين الجليلين أبي بكر وعمر، إن من يقول بمثل هذا القول لا يعلم أنه قد سقط في الخطأ مرتين، أولاهما: أنه خلط بين الديموقراطية والشورى، وثانيتهما: أنه حسب أن الشورى منتج ديني ملفعً بالقداسة والإجلال! المسافة بين الديموقراطية والشورى بعيدة كبعد المشرق من المغرب، فالديموقراطية تنزع السلطة من يد السلطان لتضعها في يد الشعب، والشورى تنزع السلطة من يد الشعب لتضعها في يد السلطان. والديموقراطية تؤمن بتعدد الأحزاب وتقبل بالمعارضة، والشورى تنكر الحزبية وتمنع المعارضة. والديموقراطية تنزل على حكم الغالبية، والشورى قد تضرب بحكم الغالبية عرض الحائط، إن في تلك المقارنات السريعة ما يكفي لتبيان أن ما عرفه العرب قديماً كان شورى لا ديموقراطية، أما القول بأن الشورى لم تكن قبل الإسلام شيئاً فهذا قول مبتسر لا يلبث أن يتداعى عند قراءة تاريخ العرب قبل فجر الإسلام. إن الشورى عرف اجتماعي ونظام سياسي توارثته قبائل العرب منذ آماد طويلة، على جري العادة، كان شيخ القبيلة لا يقطع في أمر ذي جلل إلا بعد أن يستمزج آراء مجلس قبيلته الذي لا يتسع إلا لعلية القوم من أهل النسب والحسب، وللشيخ أن يأخذ بآرائهم، أو أن يطرحها جانباً، أما القيل، وهم بقية أفراد القبيلة وأراذلها، فلا يؤخذ بقولهم ولا ينظر إليهم. ولما جاء الإسلام، ورث عن عرب الجزيرة الشورى، كما ورث عنهم كثيراً من النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعبدية، وكما كان لشيخ القبيلة الحق في الأخذ بالمشورة أو ردها، سار أهل الزعامة في الإسلام على هذا المبدأ من دون تبديل أو تعديل، فعندما آلت الخلافة لأبي بكر الصديق، كانت الردة ذرت قرنها وأوشكت القبائل أن تنقض على المدينة من كل صوب، وبدلاً من أن يدخر أبو بكر جيش أسامة لإطفاء نار الردة، نراه يصر على إنفاذ بعث أسامة الذي كان الرسول الكريم جهزه لحرب الروم قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، وعلى رغم مطالبات الصحابة الكرام لأبي بكر بأن يرمي أهل الردة بجيش أسامة، قال لهم:"والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث". وفي زمن الخليفة عمر بن الخطاب، أشار عليه أصحابه الخروج على رأس الجيش لقتال الفرس ما خلا عبدالرحمن بن عوف، الذي رأى بقاء الخليفة بموضعه لأن قتله يعني انكسار المسلمين، وعلى رغم إجماع الصحابة، فإن عمر استطيب رأي ابن عوف وعدل عن المسير. في هذين المثالين، وغيرهما، مما تزدحم به صفحات التاريخ، دليل على أن للحاكم الحرية في الأخذ برأي الأكثرية أو الأقلية أو الاستبداد برأيه، إذ شغل الفقهاء على مر العصور بالمساجلة حول ما إذا كانت الشورى ملزمة أم معلمة؟ لكن لا أحد منهم شغل نفسه بالسؤال عن المهمشين من العوام أو الهمل كما يجري توصيفهم! ما من أحد يلوم هؤلاء الفقهاء، مادام العوام لا ينظر إليهم أصلاً إلا كقطيع من الأغنام يساق بالعصا. ما يفرق الديموقراطية عن الشورى أن الأولى تمنح الناس لساناً وأذنين وعينين، فيما تمنع الأخيرة الناس من هذا، إن الشورى بميوعتها هي ما أعانت على تجذير الطغيان عربياً. آن الأوان للعرب لاستنبات الديموقراطية لأجل صد الاستبداد حتى ولو كان هذا تقليداً لأهل الجحيم! ولكن، الخوف كل الخوف، أن يجعل العرب من الديموقراطية مطية يركبها طغاة من نوع آخر، ولنا في ربيع العرب خير مثال! [email protected]