كانت نقاشات الديموقراطية والشورى في المجتمع السعودي ونصيب المرأة منها قبل الانتخابات البلدية التي شهدتها البلاد، ولا تزال بعض المناطق تعيش وقائعها، استهلاكاً تنظيرياً في أكثر الأحيان بعيداً من التطبيق والواقع الميداني. لكن الانتخابات البلدية وما أفرزته من تشكيك بعض الاسلاميين فيها أمام ترويج بعضهم لها، ومشاركة البعض الآخر فيها ولكن لارتكاب أخف الضررين، مثلما "يحل للجائع أكل الميتة"، كل ذلك وسواه من فقرات الجدل الدائر حول الشورى والديموقراطية، استدعى تخصيص حلقة عن "الشورى والديموقراطية". وكان أحد الفائزين في انتخابات المجلس البلدي في الرياض أعلن أمام الملأ أن مشاركته لم تأت حباً في الديموقراطية التي لا يراها مباحة، وإنما ل "ارتكاب أخف الضررين"، في إشارة إلى الخشية من فوز من لا يراهم يصلحون دينياً. وفي هذا السياق، خص أستاذ الفقه المقارن في كلية الملك فهد الأمنية، والخبير بمجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي الدكتور محمد بن يحيى النجيمي "الحياة" بدراسة، حاول فيها ما استطاع ربط التراث بالحاضر، وحفز الحاضر إلى الرؤية المثالية، التي أقر فيها بأن التعددية الحزبية التي ظلت دافع القلق من الديموقراطية خليجياً "ليست مشكلة دينية أو قانونية وإنما هي مشكلة اجتماعية حسب ظروف المجتمع، فكثير من المجتمعات العربية تهيمن عليها الأمية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي ونظام القبائل والعوائل". ورجح بناء على ذلك أن "النظام الحزبي ليس مناسباً لتلك المجتمعات في الوقت الحاضر"، لكنه حض على "تهيئتها وتدريبها على هذا النمط السياسي بضوابطه الشرعية والاجتماعية". وذلك اعتقاداً منه بأن "النظام الحزبي الملتزم في أصول الشريعة هو التجسيد العصري المناسب لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، ولكن بشروط أكد في بعضها أهمية "الاتفاق على وحدة العقيدة ووحدة الوطن والاختلاف المشروع، وأن يحظر على جميع الأحزاب الارتباط بالخارج ثقافياً ومالياً وسياسياً. كما منعها القيام على أسس طائفية أو قومية أو قبلية أو جهوية" وغيرها. وفي يلي نص الدراسة: اتفق العلماء على أن الشورى لا تكون فيما نزل فيه وحي، واتفقوا على تخصيص عموم كلمة "الأمر" في قوله تعالى "وشاورهم في الأمر" وفي قوله "وأمرهم شورى بينهم" بما ينزل فيه وحي. إلا إنهم اختلفوا في مدى هذه الخصوصية على قولين، الأول: إنها خاصة بالأمور الدنيوية كالحروب وشؤون الحكم وما يتعلق بها. وأما الآخر فهو كونها في الأمور الدنيوية وكذلك الدينية التي لا وحي فيها. وفي السنة أن الرسول ص شاور في أسارى بدر وهو أمر من أمور الدين وان الصحابة تشاوروا في أهل الردة وميراث الجدة وعقوبة شارب الخمر. وفي رأيي أن كلا الرأيين صحيح ويمكن الجمع بينهما بأن الشورى خاصة بالأمور الدنيوية والدينية العامة، مثل تشاور الصحابة في أهل الردة، أما الأمور الدينية التي تحتاج إلى أحكام شرعية خاصة مثل ميراث الجدة وعقوبة شارب الخمر والمستجدات الفقهية المعاصرة فهذه الشورى مقصورة فيها على الراسخين من الفقهاء فقط . إلزامية الشورى حكم الشورى اختلف العلماء فيه على قولين: الأول: يرى الوجوب وهو اتجاه عامة المعاصرين وبعض علماء السلف ومنهم أبو بكر الجصاص الحنفي والفخر الرازي الشافعي وبن خويز المالكي وابن عطيه المالكي وكذلك ذهب الزيدية إلى الوجوب، وقد صحح القول بالوجوب الرافعي الشافعي والنووي وغيرهم. الثاني: يرى الندب والاستحباب وهو اتجاه عامة السلف. ويمكن إجمال الأدلة التي استدل بها القائلون بالوجوب فيما يلي: 1- فالله في سورة الشورى الآيات 36 حتى 38 ذكر الصفات الأساسية التي تميز المؤمنين ومدحهم بها وذكر من ضمن هذه الصفات "وأمرهم شورى بينهم" وقد ذكر الله صفة الشورى بالجملة الاسمية الخبرية وهي ابلغ في الثبوت واللزوم وذكرها بين واجبين هما الصلاة والزكاة من اكبر الأدلة على وجوبها. 2- قال جل شأنه "فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ان الله يحب المتوكلين" آل عمران 159، فهذا نص صريح في وجوب المشاورة لان ظاهر الأمر الوجوب إلا إذا صرفته قرينة عن ذلك، ولا قرينة صارفة عن الوجوب. وقد نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد التي استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في الخروج إلى عدوهم أو البقاء في المدينة وكان رأيه عدم الخروج، ولكن الغالبية رأت الخروج ومع هذا أخذ الرسول الكريم برأي الغالبية فنزلت هذه الآية تأمره بالعفو وان يستمر على دوام المشاورة. 3- السنة الفعلية فقد استشار الرسول الصحابة في حديث الإفك واستشار في الأمور العسكرية كغزوة بدر وفي غزوة احد وفي غزوة الخندق وغيرها. 4- ممارسة الخلفاء الراشدين للشورى فقد اتبعت الشورى في اختيار أبي بكر وشاور رضي الله تعالى عنه الصحابة في إنفاذ جيش أسامة وفي قتال أهل الردة ومانعي الزكاة وكذلك مارس عمر الشورى وكذلك عثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهم. استحباب الشورى القائلون بالندب فيمكن إجمال أدلتهم فيما يلي: 1- أن الفقهاء عندما تكلموا عن الشورى لم يدرجوها في الأمور الواجبة وإنما تكلموا عنها في مبحث آداب القاضي. ويمكن الجواب على هذا بالقول أن الحجة فيما قال الله تعالى ورسوله لا فيما كتبه الفقهاء، وأيضا فان كثيراً من الفقهاء يقيسون مكانة الخليفة أو الإمام على مكانة رسول الله ومن ثم أعطوا الخليفة كل السلطات الدينية والدنيوية، والصواب أن الخليفة لا يقوم مقام رسول الله وإنما يقوم مقام الأمة الإسلامية. 2- الأصل في الأشياء الإباحة والأصل عدم الوجوب ومن قال بالوجوب فعليه الدليل ويمكن أن يجاب على هذا الدليل بأنه قد ورد دليل من الكتاب والسنة يوجب الشورى فلم يبق الأمر على الإباحة. 3- أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك المشاورة في مسائل كثيرة منها صلح الحديبية وقتال بني قريظة وغزوة تبوك، والجواب عنه أنه قد نزل وحي يحسم الأمر في هذه المسائل الثلاث. لماذا الاعتراض ؟ وبعد فالشورى إذن ملزمة وواجبة ومن هنا نستغرب أن نسمع بعض المشايخ والدعاة الذين يحرمون الانتخابات وهم بفعلهم هذا دفعوا كثيراً من الناس إلى عدم تسجيل أسمائهم في الانتخابات البلدية ولم يسجل في مدينة الرياض سوى أقل من 15 ألفاً، وهو عدد قليل جداً، إضافة إلى أن وسائل الإعلام تتحمل جزءًا لا بأس به من المسؤولية. وعلى فرض أنهم اقتنعوا بعدم الوجوب فلا يجوز لهم أن يحرموا وان يشككوا في أمر مختلف فيه من علماء الإسلام قديماً وحديثاً ولو كانوا يراعون المصلحة فان مصلحة الانتخابات اكبر من مفسدتها كما انهم يثيرون شبهاً حول الشورى من أهمها: 1- أن الديموقراطية نظام غربي يناقش النواب كل شيء فيه بما في ذلك أمور الدين وثوابته. 2- أن الغالبية هي الحاكمة في مجالس الشورى والبلديات والكثرة ليست معياراً صحيحاً لان الله يقول: "وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين". 3- أن الديموقراطية بنظامها الغربي لا تتقيد بالقيود والضوابط الشرعية كما أن النظام الديموقراطي يؤيد قيام الأحزاب وهذا يخالف الإسلام. ويمكن الجواب على هذه الشبهات بما يأتي: أما الشبهة الأولى فالديموقراطية بوصفها الحالي نظام غربي ولكن الأشياء السيئة التي تأتي من هناك يمكننا أخذها بضوابطها الشرعية النابعة من الكتاب والسنة، وكما قال ابن القيم: "فبأي طريق استخرج به العدل والقسط فهو من الدين وليس مخالفاً له" الطرق الحكمية ص 15، وقال أيضاً: "فإذا ظهرت إمارات الحق وقامت أدلة العقد وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره. أعلام الموقعين 4/372. وأما الجواب على الشبهة الثانية فالكثرة ليست معياراً في الأمور الدينية المحضة بل هي مذمومة. أما في مجال أمور الحياة فهذا هو الرسول استشار الصحابة في غزوة أحد وأخذ برأي الغالبية. الاسلام ليس ضد القوميات غير الأنانية وأما الجواب على الشبهة الثالثة فهو أن الحريات موصوفة ومقيدة في الإسلام بضوابط من الشريعة نفسها ومرتبطة بقيم أخلاقية نابعة من الدين نفسه وتغلب عليها النظرة الإنسانية الشاملة وإلغاء الإطار الأناني المحدود في فكرة الدولة القومية، والإسلام ليس ضد القوميات بإطلاق ولكنه ضد القوميات المتسلطة. أما فيما يتعلق بالأحزاب فقد اختلف الفقهاء المعاصرون في هذه المسألة على رأيين: الرأي الأول يرفض هذا النظام ويراه محرماً أو على الأقل يكرهه وقد استدلوا بأدلة كثيرة منها: 1 - نصوص القرآن والسنة تؤكد على وحدة الأمة وتحذر من الفرقة والاختلاف ومنها قوله تعالى "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" آل عمران: 103 وقال جل شأنه "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" الأنعام: 159 وقال رسول الله "يد الله مع الجماعة" وغير ذلك من النصوص. 2 - الملابسات السيئة التي لازمت النظام الحزبي في ظل التدخل الأجنبي الذي كان يهدف إلى تمزيق الأمة بهدف السيطرة الدائمة. الجواب: النصوص التي أوردها أصحاب هذا الرأي هي في النهي عن الاختلاف في صلب العقيدة وأصول الدين القطعية، وأما الاختلاف في الفروع والكيفيات والوسائل فمشروع ومطلوب ولا يؤدي إلى الفرقة، وكذلك فمن حق أي نظام منع الأحزاب الخطرة أو الخارجة عن النظام العام، وأما عن الدليل الثاني فالمساوئ دخيلة على النظام الحزبي ومصدرها أمور خارجية كالتدخل الأجنبي والتخلف الثقافي. الرأي الثاني: يرى أن الإسلام يسمح بنظام الأحزاب ويشجعه ما دام ملتزماً بأصول الشريعة وقد استدل هؤلاء بأدلة منها: 1 - المبادئ العامة الملزمة كالشورى والعدالة والمساواة والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصعب تحقيقها كما يصعب حمايتها والحفاظ عليها من دون أحزاب سياسية. 2 - النظام الحزبي الملتزم في أصول الشريعة هو التجسيد العصري المناسب لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3 - الدين الإسلامي دين الفطرة والواقع ووقوع الخلاف من سنن البشر. قال الله تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" هود: 118. فالأنصار والمهاجرون تنافسوا يوم السقيفة على أحقية كل منهما في الخلافة، وقد انتهى الأمر بترشيح أبي بكر رضي الله عنه النظام الحزبي ليس مناسباً لمجتمعاتنا خلص الدكتور محمد النجيمي في دراسته عن الديموقراطية والشورى إلى أن النظام الحزبي ليس مناسباً في الوقت الحاضر للمجتمعات الإسلامية. واشترط للتعددية الحزبية من ناحية الرؤية الشرعية مجموعة من الشروط التي أشار إلى أن أهمها: 1 - الاتفاق على وحدة العقيدة ووحدة الوطن والاختلاف المشروع. 2 - أن يحظر على جميع الأحزاب الارتباط بالخارج ثقافياً ومالياً وسياسياً. 3 - منع الأحزاب التي تقوم على أسس طائفية أو قومية أو قبلية أو جهوية. 4 - أن تخضع جميع الأحزاب للمراقبة من الجهات القضائية حتى تشرف على كيفية حصولها على الأموال وكيفية صرفها. 5 - أن تحدد الضوابط والشروط التي يجب على جميع الأحزاب أن تلتزم بها في النقد، وأن الحزب الذي ينتقد وزيراً أو شخصاً أو جهة من دون أدلة يجب أن يعاقب عقاباً رادعاً. 6 - يجب أن تتوافر شروط معينة في من يتقدم لترشيح نفسه سواء في مجلس الشورى أو المجالس البلدية ومن أهمها: أ - العدالة الجامعة لشروطها. ب - العلم في شؤون الحكم والرأي وبعبارة جامعة للشرطين السابقين نقول :الأخلاق الدينية الفاضلة والثقافة العامة، وعلى هذا فلا نتفق مع الرأي القائل بأن مسألة شروط أهل الشورى ليست من المسائل التي يصح أو يوضع بصددها قواعد جامدة وإنما يتقرر الرأي فيها بناء على ما تقتضيه ظروف البيئة. أما في ما يتعلق بالناخب فلا بد أيضاً من الأخلاق الدينية الفاضلة ولا بد أن يكون عنده علم ولو محدود بالشهادة الابتدائية مثلاً. وأعود مرة أخرى إلى المرشح فأرى ألا يقل مستواه العلمي عن الجامعة ولكن الأمر يختلف باختلاف البيئات والمجتمعات والمستوى الثقافي. وفي الختام أرى أن قضية الأحزاب ليست مشكلة دينية أو قانونية وإنما هي مشكلة اجتماعية حسب ظروف المجتمع، فكثير من المجتمعات العربية تهيمن عليها الأمية والتخلف الاقتصادي والاجتماعي ونظام القبائل والعوائل. وبناء على ذلك فلا أرى النظام الحزبي مناسباً لها في الوقت الحاضر، ولكن يجب تهيئتها وتدريبها على هذا النمط السياسي بضوابطه الشرعية والاجتماعية.