استطاع الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود رحمه الله، مع بداية القرن الماضي، وفي أوج الصراع الإنكليزي/الفرنسي على تقاسم البلاد العربية والإسلامية، أن يوحد أجزاء المملكة العربية السعودية المترامية الأطراف، بصبر المؤمن، وصلابة رجل القضية، بعد جهاد متواصل، استمر 31 عاماً، قضى أكثرها الملك الشاب، متنقلاً على صهوة جواده مع نخبة من رجاله المخلصين، بين شرق الجزيرة العربية ووسطها وغربها، رافعاً راية الوحدة والتوحيد، منطلقاً من قوله عز وجل إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، داعياً أبناء البوادي والتجمعات المدنية للخروج من نفق الاقتتال بين المشايخ والإمارات في داخل الجزيرة، ومن أوهام البدع والأضاليل والعودة للالتزام بكتاب الله وسنة نبيه r، وبناء دولة الإسلام والسلام، وعلى الأرض التي انطلقت منها رسالة التوحيد، وهو بذلك أكد حقيقة الغاية التي من أجلها دخل مدينة الرياض، مع ستين مجاهداً من رجاله المخلصين وليكون هذا الدخول، البداية المباركة لتأسيس صرح دولة الإسلام ومملكة الخير والإنسان لخدمة الإسلام والمسلمين والناس أجمعين. وأطلق العديد من المؤرخين، تسميات وألقاب متعددة على موحد المملكة ومؤسسها الملك عبدالعزيز آل سعود منها: أسد الصحراء، وصقر الجزيرة العربية، وسيد الصحراء العربية، وفارس الجزيرة، واعتبر بحق أحد أكبر صانعي الأحداث في النصف الأول من القرن العشرين الماضي لأن دور وتأثير الملك الشاب المؤسس، لم يقتصر على الجزيرة العربية وحدها، وإنما امتدت تأثيرات المملكة التي أقامها في جزيرة العرب، إلى معظم أنحاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، من خلال الدعوة التي أطلقها الملك عبدالعزيز من مكةالمكرمة عام 1345? / 1926 إلى التضامن بين الشعوب والدول الإسلامية، وفي أول مؤتمر إسلامي عالمي في تاريخ المسلمين المعاصر، بعد انهيار الدولة العثمانية التي كانت تبسط سيطرتها على أكثر البلاد العربية والإسلامية. وبقي هذا التوجه التضامني والأخوي بين المسلمين في شتى بلدانهم، من الثوابت الأساسية في نهج وسياسة الحكم في المملكة العربية السعودية على الصعيد الداخلي والخارجي، في عهد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، وفي عهد أبنائه الملوك البررة الذين خلفوه في مسيرة استكمال بناء الدولة على أسس علمية وعصرية، ونصرة الشعوب المسلمة ودولها وأقلياتها في كل مكان من العالم. وبقيت مسيرة الخير والإسلام مستمرة في المملكة على هدي من كتاب وسنة نبيه r، وسيرة السلف الصالح، مع كل العهود والملوك من أبناء الملك المؤسس وأسرته، إلى أن تولى مسؤولية الأمانة والقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، يوم الإثنين في 26/6 من عام 1426? الموافق 1/7/من عام 2005، بمعاونة ومؤازرة ولي العهد الأمين وأشقائه وحكومته الرشيدة، إذ استطاع من خلال الصفات القيادية المتوافرة لديه، والتجارب السياسية التي خاض غمارها، أن يخطو خطوات حضارية ونوعية، مستمدة من تعاليم الإسلام ليرتقي في أسلوب الحكم ومتطلباته، من خلال الأنظمة والقوانين التي استحدثتها المملكة وقيادتها، لمواءمة ومواكبة المتغيرات الديموغرافية والسياسية، في المنطقتين العربية والإسلامية، مع بداية القرن الواحد والعشرين، الذي أضحى فيه العالم كله، متواصلا ومتداخلاً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، بفضل الثورة المعلوماتية والإعلامية التي عمت الكون. وحرص خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وحكومته منذ توليه مهام الحكم أن يعمل على تحصين وتثبيت مسيرة الحكم والحكومة، لتبقى المملكة رافعة راية الإسلام والخير وخدمة الإنسان، وقد أكد هذا النهج الملك عبدالله بقوله خلال توليه القيادة أعاهد الله، ثم أعاهدكم أن اتخذ القرآن دستوراً، والإسلام منهجاً، وأن يكون شغلي الشاغل، إحقاق الحق، وإرساء العدل، وخدمة الموطنين كافة بلا تفريق، ثم أتوجه إليكم طالباً منكم أن تشدوا أزري، وأن تعينوني على حمل الأمانة، وأن لا تبخلوا علي بالنصح والدعاء. وغدت المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، على رغم كل التحديات والمؤامرات المفروضة عليها، وعلى المنطقة عوناً لكل بلد عربي وإسلامي، في سعيه للحرية وبناء الذات، وامتلاك قراره السياسي والاقتصادي والثقافي، وبذلك أضحت السعودية ملاذاً آمناً للمسلمين والعرب لنصرة شعوبهم وقضاياهم العادلة، البعيدة عن التطرف والمغالاة، وما نصرة فلسطينولبنان والعراق والسودان والصومال وليبيا ومساعدة شعوب أفغانستان والفيليبين والبوسنة والهرسك، والأقليات الإسلامية في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا، إلا نموذجاً حياً وحضارياً مضيئاً في تاريخ الدور السعودي الخير، والداعم لوجود العرب والمسلمين في بلادهم، مع الحرص على الوحدة الوطنية لهذه الشعوب، وعدم التدخل في شؤونهم الداخلية والخاصة. أما على الصعيد اللبناني فقد لعبت المملكة دوراً هاماً وأساسياً في تهيئة الأجواء لإقرار وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف، بالتعاون مع كل الفرقاء والقيادات اللبنانية، لوضع حد للحروب العبثية الداخلية التي أشعلها العدو الصهيوني عام 76 لإلهاء العرب والمسلمين، وإضاعة القضية الفلسطينية، وزرع الفتن بين فصائلها، ولا تزال المملكة محتضنة لبنان وشعبه وحكوماته المتعاقبة، لينهض من كبوته اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، بالمساعدات المالية الكبيرة، والإسهام في إعادة بناء المدن والبلدات والقرى والجسور التي دمرت بفعل العدوان الإسرائيلي في 12 تموز يوليو 2006، وما سبقه من اعتداءات وما أعقبه من خلال قوافل الخير المحملة بكل أنواع المواد الغذائية والبيوت الجاهزة ومحتوياتها، التي انطلقت من بلاد الحرمين الشريفين ومن كل بلاد الأشقاء العرب، لمحو آثار العدوان الإسرائيلي على الجنوب اللبناني والبقاع وبيروت وضاحيتها وكل لبنان، حتى إن مكرمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، دخلت إلى كل بيت، واستفادت منها كل أسرة لبنانية، من دون تمييز أو تفريق بين منطقة وأخرى، أو بين شريحة وشريحة، وذلك تأكيداً لنهج المملكة في حرصها على كل القضايا العربية والإسلامية في كل زمان ومكان، ومن دون اعتبار أو مصالح أو غايات تسعى إليها الكثير من الدول في هذه الأيام، وبخاصة على الساحة اللبنانية وغيرها من الساحات العربية. ويطل علينا هذا العام، اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، لنتذكر معاً مسيرة قيام دولة الإسلام ومملكة العروبة، مع بداية القرن الماضي، لنؤكد قولاً وفعلاً وعملاً، بأن مصدر قوتنا هو تمسكنا بكتاب الله، وسنة نبيه r، وتضامننا واتحادنا، عرباً ومسلمين، في مواجهة كل التحديات المفروضة علينا، من أعداء العرب والإسلام، إذ لا مكان للمتفرقين والمتباعدين على الساحة الدولية ومؤسساتها، وقد أدركت أخيراً العديد من الدول الصغيرة والكبيرة، مخاطر التباعد، وحسنات التلاقي والتكامل، فعقدت في ما بينها اتحادات واتفاقات اقتصادية وسياسية، لتثبيت وجودها، وتأكيد دورها الإقليمي والدولي كما هو حال حاصل في مجلس التعاون الخليجي. فهل نستفيد من مسيرة بناء دولة الإسلام ومملكة العروبة والإنسان، التي أطلقها الملك عبدالعزيز رحمه الله، وتابعها أبناؤه الملوك البررة من بعده، ويقودها بفروسية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وإخوانه وحكومته الرشيدة؟ في اليوم الوطني للمملكة نشعر بأننا بحاجة في كل قطر عربي وإسلامي، للاستفادة من تجربة توحيد أجزاء المملكة العربية السعودية، ونهوضها وحملها لرسالة الإسلام والإيمان وخدمة العرب والمسلمين. وفي اليوم الوطني للمملكة نشعر بأننا بحاجة إلى الحكمة والمرونة والوسطية والاعتدال والشجاعة، التي تتحلى بها القيادة العربية السعودية، لصياغة موقف عربي موحد، وإسلامي داعم لمكافحة سياسة الإحباط والهرولة باتجاه العدو الصهيوني ويشكل مجلس التعاون لدول الخليج العربية مثالاً حياً لقدرة العرب والمسلمين على التلاقي والتكامل والبناء، لصناعة غدٍ أفضل ورفض الابتزاز الصهيوني وبالتالي الأميركي، وقدرتهم على صياغة مستقبلهم، بعيداً عن المشاريع والمخططات والمسميات الوافدة من وراء البحار، والتجربة السعودية في الوحدة والتوحيد وبناء الذات خير مثال لأمتنا العربية والإسلامية. * الأمين العام للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى فى لبنان