لو قدم أحد، أي أحد، نصيحة لدولة خليجية بأن تتخذ خطوة تاريخية غير مسبوقة بإعلان انسحاب مفاجئ من جامعة الدول العربية، هكذا بكل سهولة وبلا مقدمات، لاعتبرت هذه النصيحة سذاجة وحماقة وكلاماً تافهاً لا يرتقي حتى لمستوى الطرح أو المناقشة، فضلاً عن التنفيذ أو التطبيق على أرض الواقع، وإذا ما أخذت النصيحة بطريقة جادة وتم التعامل والتعاطي معها ودرس إيجابياتها وانعكاساتها، ثم العمل بها لصنفت هذه الخطوة تحت مظلة الجنون السياسي والحركة الكوارثية التي"انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها"! ثم ستخرج في وجه صاحب القرار الجريء الشعارات القومية ترتفع شاهقة في عنان السماء تصدياً لكل محاولات شق الصف العربي، وكلام لا ينتهي عن وحدة اللغة والدم وعلاقات الجوار وروابط الأخوة، وسيسمع بالتأكيد قصيدة فخري البارودي"بلاد العرب أوطاني"، وأغنية سيد مكاوي"الأرض بتتكلم عربي"، لكن المصالح مليون في المئة أهم من الشعارات والقصائد والأغاني... شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع... شعارات أوهن من بيت العنكبوت... شعارات تصدق مرة وتكذب مليون مرة... والمصالح خير وأبقى. ولعل حرب صدام حسين على الكويت، والانقسام العربي المضحك المبكي على تلك الغزوة الشيطانية، ثم حلم التقسيم بين المؤيدين والمنجرفين وراء قرار الرئيس العراقي الراحل، لم يكن سوى صورة، مع التحية لمن يريد معرفة كيف يفكر بعض العرب، حينما تخرج المصلحة من جحورها. فلولا حكمة وتسامح وسعة صدور زعماء الخليج وملوكها وحكامها لبقيت آثار تلك المرحلة جاثمة على بلدانهم ودولهم وأجيالهم حتى إشعار آخر. وعندما أعلن مجلس التعاون الخليجي، قبل شهر ونصف الشهر تقريباً، انضمام الأردن والمغرب تعالت على الضفة المقابلة أصوات عربية رافضة هذه الخطوة التاريخية، وفسرتها انقلاباً مبطناً على جامعتهم الموقرة، وكأنهم يحسبون كل صيحة عليهم! لدرجة أن الصحافة المصرية لم ترَ فيها أي معنى سوى رد واضح وصريح على التقارب المصري الإيراني، الذي بدأ يتشكل على يد الأمين العام لجامعة الدول العربية الجديد نبيل العربي! إننا لن نتحدث عن التدخل في شؤون الآخرين من منطلق"أنا وابن عمي على الغريب"، لكن السؤال: لماذا لم يتعامل أبناء عمومتنا العرب مع المسألة بروح رياضية؟! وعلى ذكر الرياضة وروحها أظن أن البطولات الكروية العربية سجلت أرقاماً قياسية وفلكية، ليس في التنافس الشريف والصراع على الألقاب، ولكن في صراع من نوع آخر عنوانه الاعتداءات والضرب والتشابك وتبادل الشتائم، والنزول إلى أرض الملعبپوتحويله إلى حلبات مصارعة، وكل هذا يحدث وبطولاتهم وألقابهم التي تقام عاماً وتتوقف عشرة أعوام لا تملك حتى حق اعتراف فيفا الغارق في الرشاوى والدسائس وشراء الذمم! أقول لماذا لا تختصر القصة من سطرها الأول إلى نقطتها الأخيرة بأن الخليجيين لديهم مصالح هم أدرى بشعابها وأسرارها وتوجهاتها ونتائجها، سواء مع المغرب أو الأردن، فظهرت في هذا السياق عشرات التعليقات التي أشبعت القضية طرحاً وتناولاً وتحليلاً، فيقول الكاتب المصري سليمان جودة"المملكة الأردنية كدولة لها حدود مباشرة مع السعودية، ولذلك فوجودها كعضو ليس غريباً وربما يكون مطلوباً، أما المغرب فهو مسألة ليست مفهومة حتى الآن، لا لشيء إلا أن المملكة المغربية في أقصى الغرب من العالم العربي، بينما دول الخليج جميعها في أقصى الشرق"، وإذا كنا سنأخذ بمبدأ"جودة"، الذي حصر العلاقة بالجغرافيا، فمن باب أولى أن يطبق كلامه هذا على الجامعة العربية نفسها، ونقسم ال 22 دولة على أسس حدودية من دون غيرها، خصوصاً إذا عرفنا أن المسافة بين أبو ظبي ونواكشوط مثلاً تتجاوز الساعات العشر في رحلة طيران، ومن جاور السعيد يسعد. أما إذا كان الكلام سينحصر على المصلحة فقط من دون أي اعتبارات أخرى، فما الفائدة من الجلوس على مقاعد فاخرة بجانب دول ترزح تحت جبال من الديون، وتحاصرها البطالة وتكبلها مشكلات تنموية من رأسها وحتى أخمص قدميها، وتعيش على الإعانات والمساعدات والهبات، فالاتحاد الأوروبي كمنظومة عالمية إستراتيجية يضم 27 دولة، إذا اشتكى منها عضو تداعى له باقي الجسد بالسهر والحمى، كما يحدث الآن مع البرتغال، فماذا فعلت الجامعة العربية للصومال وموريتانيا وجيبوتي؟! لا شيء... طبعاً لا شيء... هذه الدول المغلوبة على أمرها لا تعرف أن تتكلم، وإذا تكلمت لا أحد يسمعها، وإذا سمعوها فلا حياة لمن تنادي. ثم إن العرب أكثر من يتحدثون عن الصداقة وأهميتها وفوائدها، لكنهم أكثر من يجهل أبسط قوانينها ومبادئها وطقوسها، وكأن مصممة الأزياء الفرنسية الراحلة شانيل تقصدهم وتعنيهم بقولها:"يا صديقي... ليس هناك أصدقاء"، وليس هناك دليل يدينهم هذه الأيام أكثر مما تفعله قناة"الدنيا"السورية شبه الرسمية وتجاوزها الخطوط الحمر مع القطريين، كرد على تغطية"الجزيرة"لمظاهرات وجرائم ترتكب في حق المساكين والضعفاء العزل... وسبحان مغير الأحوال! إن جامعة الدول العربية التي أسست قبل 66 عاماً، أي في عام 1945، لم يكتب لها، وهي تبلغ من العمر عتياً، أي موقف يمكن أن نتذكره بفخر واعتزاز وثقة، باستثناء انتفاضة أمينها العام السابق عمرو موسى قبل شهرين تقريباً ضد ما فعله العقيد معمر القذافي بأبناء جلدته، وتصديه لزمام المبادرة من أجل حشد تأييد دولي للتدخل وإنقاذ أهالي بنغازي والبريقة ومصراتة من الرصاص والقتل والمرتزقة، والظن الذي يشبه اليقين أن موسى أراد بذلك التحرك الذي يشبه بيضة الديك أن يصبح بطلاً عربياً ومناضلاً قومياً قبل خوض المنافسة على رئاسة مصر، فدفع فاتورة الانتخابات مقدماً"على قفا"زعيم الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا، كما كان قائد الثورة الليبية يصف نفسه دائماً، وإلا لماذا التزم موسى الصمت وعاد لطبيعته التي جبله الله عليها، وغض الطرف عن المقابر الجماعية في"درعا"، وقتلى تجاوزوا الآلاف على يد الأسد وشبيحته ونظامه، وجثث تتسابق القنوات الفضائية في زف أرقامها كل يوم جمعة... السوريون وأطفالهم وشيوخهم وشبابهم ونساؤهم يقتلون ويعتقلون ويعذبون، وأمين العرب يوزع الابتسامات في قمة الثماني! أما كيف ينظر العرب، كل العرب، للخليجيين فهذه قضية تطول، ويطول شرحها، تبدأ من مشاهد مقززة عبر أفلام هابطة، ولا ندري أين وكيف ومتى تنتهي، وما يمكن قوله أخيراً، أن النصيحة المقدمة لدولة خليجية بالخروج من جامعة الدول العربية ستظل نكتة، وربما تصبح حقيقة، فالعالم العربي وحده في هذا الكون الفسيح يمكن وبسهولة أن تتحول فيه النكتة إلى حقيقة دامغة لا تقبل القسمة على اثنين! * كاتب سعودي. [email protected]