مؤخراً كنت في زيارة عمل إلى المدينة النبوية، وخلال هذه الزيارة صليت المغرب في المسجد النبوي، ومكثت فيه ما بين العشاءين، ثم صليت العشاء وغادرت المسجد والمدينة متوجهاً إلى المطار، لكن الذي لفتني هو ذلك الصفاء الروحي والراحة النفسية التي عشتها في تلك الساعة، وأذكر يومها أن إمام الحرم قرأ في صلاة العشاء آيات من سورة الرعد، وختم الركعة بقوله تعالى:"الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب"، فكأنني أستمع إلى هذه الآيات للمرة الأولى، عندها أحسست كم أنا بعيد عن مثل هذه الأجواء، وربما مهموم أو مشغول بأمور أخرى، وربما كان المكان له دوره، أو القارئ له دوره، أو لحظة استجماع قلبي فرضها الزمان والمكان والحال. في غمرة لهاث المرء خلف حياته المهنية ومشاغله الاجتماعية والأسرية"يتحول إلى ما يشبه الآلة التي تبدأ يومها وفق ساعة بيولوجية محددة، وتختمه بإرهاق جسدي في أعقاب يوم عمل صعب، لا يخفف من غلوائه سوى الطعام والنوم. وفي غمرة تلك الرحلة الحياتية اليومية"تمحى الجوانب الروحية لدى بعض الناس أو تكاد، الأمر الذي يجعلهم يتعودون على نظام حياة يجعل العناية بالعبادات في أواخر سلّم الاهتمامات، فالمحافظة على الصلاة في وقتها قليل، والنوافل معدومة، وتلاوة القرآن مؤجلة حتى إشعار آخر. غير أن هذه الحياة لا يرضاها لنا ديننا الحنيف، ولأجل ذلك شرع الله لنا عدداً من المحطات تقوم بدورها المهم في تجديد علاقاتنا مع الله، أو تشكّل بداية انطلاقة جديدة في سيرنا إلى الله، فمن هذه المحطات يوم الجمعة، ومنها شهر رمضان، وشهر الحج، والأشهر الحرم، ويوم عاشوراء وغيرها، وغيرها. إن هذه المحطات إذا أحسنّا استغلالها"ربما حققت لنا مبتغانا في جانب غذاء الروح الذي تسير به الأبدان إلى ربها ومنتهاها. لقد عنيت الحضارة الغربية عناية بالغة بالماديات والحسيات، فوصل المرء إلى تحقيق كل ما يريد من الشهوات، لكن الإحصاءات تظهر أن أعلى نسبة من عدم الرضا عن هذه الحياة موجودة في بعض تلك البلاد!! ألا يحق لنا أن نتساءل عن سبب ذلك؟ ربما نجد أن أحد الأسباب في ذلك يكمن في غياب الروحانيات التي تمد قلب الإنسان وعقله بالحياة والسعادة الحقيقيتين. وفي خضم ذلك يأتي"شهر رمضان"ليدعونا إلى تجديد حياتنا من جديد، ويجيء التعبير القرآني في كلمة"شهر"ليقول لنا: إنه شهر واحد، من بين اثني عشر شهراً، وليقول لنا من ضمن ما يقول إنه ثلاثون يوماً، فهو"أياماً معدودات"يحتاج المرء إلى أن يجتهد فيها في العبادة فلا تصعب عليه، وربما كان التعبير سبباً في استغلال هذه الفرصة التي منحنا الله إياها، فلا نضيعها ولا يجب أن نضيعها، فهي أيام معدودات ثم تزول، ويجب علينا أن نستغل هذا العرض الذي تضمن فتح أبواب الجنان، وتصفيد الشيطان. هذه الدورة التربوية العظيمة تتوزع فيها جوانب من أعمال العبادة تراوح بين الصيام في النهار، وتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، والصدقة والجود سائر اليوم والليلة، وصلاة التراويح في الليل، وقلّ مثل ذلك عن العمرة في رمضان والاعتكاف في آخره، وحسن الخلق وصلة الرحم، وأنواع المبرات التي لا تنتهي. المهمة الأساسية في رمضان هي الصيام، وقد وردت نصوص كثيرة في فضله، يكفي أن أذكر لكم الحديث الصحيح:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"وفي رواية:"يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي". هذه العبادة العظيمة تتجلى في أسمى معانيها في تعويد المرء على عدم الرياء، لأنها سر بين العبد وربّه، كما أن في الصوم منعاً لكثير من ملذات النفس وشهواتها بما لا يجده المرء في عبادات أخرى، وكل هذه المتروكات إنما يتركها لله تعالى وابتغاء مرضاته. وإذا امتنع عن بعض الشهوات من طعام وشراب - لبضع ساعات -"تذكّر إخواناً له لا يجدون الطعام والشراب طيلة العام، فيجود عليه بما ييسر الله له من مال أو طعام، ألسنا نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان"؟ومما يساعد في حفظ المهمة الأساسية"الصيام، ويشكّل سياجاً لها يحميها من اللغو أو الرفث أو الفسوق تلاوة القرآن تلاوة خاشعة متدبرة، تقف عند معانيه، وتتأمل أوامره ونواهيه، وتجعلك تفكّر في أي مكان وموقع أنت من هذه الآيات؟ وما مدى قربك منها؟ ألم ينزل القرآن قي رمضان؟ ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدارس القرآن مع جبريل عليه السلام في رمضان؟ أليس لذلك دلالة على أهمية العناية بالقرآن في هذا الشهر؟ أخي الكريم... أختي الكريمة: حتى نتذوق طعم الحياة"لنبدأ مع رمضان... لنجدد الصلة مع ربنا في رمضان... لنجدد الصلة بقرآننا في رمضان... تقبل الله مني ومنك الصيام والقيام والصالح من العمل. * أكاديمي عربي مقيم في الرياض.