في ظل توحش الرأسمالية كل شيء يقبل التسليع، حتى الفن والأدب. إذ نلاحظ في الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية أن الكاميرا لا تتحرك عبثاً، إنما ناحية جهة يُراد لها أن تُمرر إلى وعينا ولا وعينا. فالسيارة التي يقودها الممثل لم يتم اختيارها بمحض الصدفة أو لتعزيز شخصية البطل بموجب أحداث القصة. كما أن التركيز على ممتلكاته المادية لا علاقة لها بالفكرة التي يريد الفيلم إيصالها. من المنطلق الترويجي ذاته يتم إلباس الممثلات ملابس من ماركات معينة، وإثقالهم بالإكسسوارات. وذلك لتحويلهن في سياق الفيلم أو المسلسل إلى لوحات إعلانية ضاجة بالعلامات التجارية. وهكذا يتم التعامل مع الفنادق والمطاعم والمقاهي التي يرتادونها خلال حراكهم في مشاهد الفيلم. بمعنى أن يتحول العمل الفني إلى حقل إعلاني مموّه. وربما يكون هذا التوجه مفهوماً ومستوعباً بالنظر إلى ما يتيحه خطاب الصورة من مساحات جمالية جذابة. إذ يُلاحظ تركيز اللقطات على ما يتناوله البطل من مشروبات ومأكولات. أو نوع السيجارة التي تدخنها البطلة. وكأن الكاميرا غير معنية بوجوه الممثلين وانفعالاتهم بقدر ما هي منذورة لسرد الأدوات الاستعمالية، التي صارت تحضر في الأعمال الفنية بإفراط. ولأن الماركات التجارية صارت ضرورة من ضرورات أي عمل فني، أصبحت مسألة تضمينها في الفيلم جزءاً لا يتجزأ من العرض. ولذلك يحاول القائمون على الصناعة السينمائية مراعاة تلك الحضورات. بحيث لا تربك عين المشاهد، ولا تُخل بانجذابه للفيلم أو المسلسل. على رغم من وجودها في هامش لا يخدم مرادات القصة، عندما يتم إخضاع العمل الفني للتحليل. كما يُلاحظ هذا المنحى بوضوح في سلسلة أفلام جيمس بوند تحديداً. وهو اتجاه دعائي يبلغ مداه في السينما الأميركية أكثر من غيرها. ولأنها إعلانات تجارية مراوغة ومزروعة بلطافة في سياق العمل الفني، لا يُبدي المشاهد أي رد فعل معادٍ له. بل لا ينتبه إليها أحياناً. فهي من الخِفة والرهافة بحيث لا تصيب المتفرج بالملل، كتلك التي تقطع المسلسل أو الفيلم ليتحدث الإعلان. أو هكذا يتم تبطينها في مدرجات الفيلم البصرية بانسيابية وحِرفية بالغة. هكذا صارت الماركة التجارية تتسلل الأعمال الفنية بعد أن استوطنت الحياة العامة بأشكال ماكرة وسلسلة. كأن تتسلل إلى الوعي واللاوعي عبر ما يُسمى بعلامة الحُبّ التجارية. التي تعتمد على توظيف جماهيرية نجمة السينما كمعبودة. فتحول تلك الأيقونة الجمالية إلى مشجب لصرعات الموضة، سواء أكانت داخل الفيلم بما تلبسه وتتناوله أم خارجه، من خلال الإعلان التجاري الصريح. ولم يتوقف الأمر عند حافة الفيلم السينمائي، بل تمادى الإعلان التجاري، وبشكل يثير الاستغراب، ليصل إلى الروايات. وهو أمر صار ملموساً بخاصة عند الكتاب الناجحين جماهيرياً وتجارياً، أمثال ستيفن كنج الذي يستخدم العلامات التجارية كثيراً، وبشكل متعمد ومدروس في رواياته لتبليغ رسالته الإعلانية. إذ يبالغ في وصف متعلقات أبطاله من الملبوسات والمأكولات، فيميل بالسرد ناحية نوعية العطر الذي تستخدمه بطلته، وما تنتعله في قدميها وماركة «البنطلونات» والقمصان المفضلة لديها. حتى فنجان القهوة تتم تسميته بدقة متناهية في هذا النوع من الروايات. فيما يبدو محاولة لرسم صورة تفصيلية دقيقة لسمت ومزاج الشخصية. إلا أن الحقيقة تكمن في كون الروائي كتب إعلانات مدفوعة ليحول الرواية إلى سوق أو «فاترينة» عرض. إذ لا شيء من المنتجات التجارية يرد ذكره في الرواية من دون مقابل مادي. وفي هذا الصدد برزت مدرستان متضادتان في الرؤية والمبررات. إذ تقول إحداهما بأن توظيف العلامات التجارية بتلك الصراحة والفصاحة والكثافة في إبراز النواحي التفصيلية، هي طريقة مثالية لإضفاء حال من الصدق على القصة المتخيلة. إذ تتميز بالسرعة في اقتناص الملامح، والفعالية في التوصيف. وهي بموجب تلك الرؤية وسيلة فنية مهمة لتحديد الطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها الشخصية الروائية، ورسم معالم الفضاء المادي الذي تتحرك فيه. على اعتبار أن متعلقات الشخصية امتداد عضوي لحالها المادية ومزاجها النفسي. وكل إشارة في هذا الصدد تبعث برسالة ذات مغزى تجاه القارئ. أما المدرسة الثانية فتمتلك وجهة نظر مناقضة، فترى في ذلك الاستخدام القصدي والفارط للماركات التجارية نقيصة فنية، إذ يؤدي الإسراف في العلامات والفصاحة في التسمية إلى إضعاف الأسلوب، وتحديد تاريخ الرواية بسرعة. الأمر الذي يقتل عنصر التشويق، إضافة إلى أنها تسقط العمل في النمطية، وتتسبب في تضليل القارئ، ويؤدي كل ذلك إلى إرهاق السرد بأوصاف وتفاصيل لا علاقة لها بسياق الرواية ولا بواقعية الشخصية. فالملابس الفاخرة التي تُرمى على أجساد أبطال الروايات لا تكون دلالة على الغنى بالضرورة، فمن الممكن أن تكون مستأجرة أو مسروقة، وبالتالي فهي لا تحيل بشكل آلي إلى الطبقة أو المكانة الاجتماعية. هناك رد فعل جماهيرية ضد الموجة التوسعية للعلامات التجارية، ظهرت حركات ودراسات ثقافية تطالب بالحد من حضورها في الأعمال الفنية، بعد أن حولتها إلى وكالات دعاية للمحلات والعلامات والشركات التي تحتل بدورها الفضاء العقلي والوجداني للإنسان الحديث، إذ يمكن أن نتخيل طبيعة ومستقبل العمل الفني الذي يتم تنفيذه تحت رعاية تلك الماركات الساطية. فهذا لا يهدد جودة العمل فقط، بل يشجع على تصعيد نزعة الاستهلاك، وإفراغ المنتجات الفنية من المحتوى ومن حرقة التجربة لمصلحة المنتج التجاري. * ناقد سعودي