هل رأيتم مخلوقاً أو كائناً ظل ثابتاً بسخاء مفرط في مكانه لا يتزحزح عنه، مع تغيُّر الزمان وتبدل الأحوال مثلما يفعل المثقف السعودي؟ هذا المسكين الذي داعبه حلم أن يصبح ذات يوم مثقفاً أو أديباً، فعكف ينحت له مكاناً بين قوائم طويلة وأسماء عريضة مفخخة بالنجومية الكاذبة؟ سترونه فيمن صاروا ذات فجأة مثقفين! هذه الكينونة المصطنعة للمثقف السعودي حُمِلت بأثقال وأوزار أسقطته في قاع المجرى، فعلق بصخرة ثقيلة اسمها الإبداع، ولم ينعتق من أوهامها حتى اليوم. قلة هم الأذكياء الذين طفوا فوق السطح وتخففوا من أعباء أوهامهم وسبحوا مع التيار حتى انتهوا إلى جزر الأحلام الخضر، وراحوا بانغماس تام يقطفون ثمارها، ويقذفون ببقايا القشور على أولئك المساكين الراكدين في أماكنهم، أسماء صغيرة لا نزال نذكر وجوههم المتعرقة بركض لاهث ومتواصل خلف الكبار، يتعلقون بأحذيتهم كالقواقع، اليوم نراهم على سدة المشهد الثقافي، وعلى المنصات وفوق المنابر الثقافية، يتقلبون ليل نهار ما بين قناة وأخرى ب «غتر» بيضاء ناصعة وساعات «رولكس» تثقل المعاصم، ليس إلا هم، وكما يقال «ما بالبلد إلا هالولد»، يتفوهون بأصوات متعجرفة بترهات لم تعد صالحة لوعي جيل كامل من الشباب، دعوني أخرج من هذا الطابور القصير وأعود إلى الطابور الطويل من المثقفين الموضوعين على هامش الإدارة الثقافية، التي تتعامل معهم بشيء من الفوقية والتعالي، فما إن يعقد ملتقى أو ينظم مؤتمر حتى تبدأ السلطات الثقافية بتوزيع المكرمات (الدعوات) على هؤلاء بفرز خاص، أما المميزون «المنجمون» فتصلهم بلا أدنى شك أو ريبة كركن من أركان الإيمان! أذكر أن أحد المتورطين في لعبة الثقافة الخاسرة ظل يبحث عن أحد المسؤولين لحضور أحد الملتقيات الثقافية، حتى انتهى به المطاف إلى «وسيط ثقافي» له دالّة على متعهد الملتقى؛ فقال له بالحرف الواحد: «لا تتعب نفسك الأسماء محددة سلفاً»! مع أن كثيراً من الأسماء المدعوة ليس لها علاقة بموضوع الملتقى! صاحبنا كان يبتغي الوصول إلى مرتقيات المثقفين اللامعين أصحاب ساعات ال «رولكس»، وأنا أعلم أنه سيصل ذات يوم، فلديه مهارات بهلوانية جيدة ستمكنه من الوصول، و«سداح يريد فرصة»! واليوم هو يهرول للوصول إلى المعنيين مباشرة بملتقى المثقفين الثالث الذي أعلن عنه أخيراً في «الحياة» بلا سابق إعلام! لكن يا للأسف: بعد انقطاع دام خمس سنوات، كما ذكر في التصريح على لسان الأمين العام للهيئة الاستشارية محمد رضا نصرالله ليصله القول الفصل مع خيبة محبطة بأن البطاقات الألف محجوزة لأسماء محددة سلفاً! لا تهمنا خيبة المثقف الطموح، بقدر ما تهمنا خيبة الثقافة بمجملها، فالملتقيان الأولان اللذان أنجبا عدداً من التوصيات الرائعة جفّت أحبارهما، وأصبحا في ذاكرة المثقفين بلا هوية، الملتقى الأول تمخض عن توصيات تدعو في مجملها للوقوف حائلاً دون الإرهاب، أما الثاني فقد أثمر عن ثلاث توصيات مهمة: رابطة الأدباء والمثقفين، وصندوق المثقف، وجائزة الدولة التقديرية، لم ينفّذ منها شيء حتى اليوم، ولم تناقش على هامش منتدى أو حتى أطروحة، وكأنها سراب بقيعة. اليوم ماذا سننتظر من الملتقى الثالث؟ وزير الإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة قال في حوار مفتوح جمعه مع نحو 200 مثقفة ومثقف في ختام معرض الرياض الدولي للكتاب: «الوزارة ستنظم قريباً الملتقى الثاني للمثقفين، مؤكداً أن نتائجه لن تكون توصيات بل بقرارات يتم تفعيلها مباشرة. ها نحن أولاء نتلقى الخبر على لسان نصر الله بتنظيم الملتقى الثالث، ولم يتحرك ساكن، المثقفون المنتظرون (أو المؤجَّلون) كان يداعبهم أمل يشي به تأخر هذا الملتقى؛ بأن يصدر شيء قريب يعزز من ثقتهم بالوزارة. وكيل الوزارة السابق أبوبكر باقادر قال عندما سئل عن سبب تأخر الملتقى الثاني ما نصَّه: «ليس المهم الفترة التي مضت على عقد الملتقى الأول، أو عدد مرات عقد الملتقى، المهم إنجاز التوصيات والمقررات التي تمخَّض عنها الملتقى الأول»! وفي الحوار ذاته قال: «بعض هذه التوصيات كانت تعبر عن طموح ورغبة المثقفين في الارتقاء بالنشاط الثقافي، ومثل هذه التوصيات تحتاج إلى فترة أطول وهي في طريقها إلى الإنجاز، وهناك توصيات ومقررات صدرت عن الملتقى تحمل طموحات عالية نتمنى، نحن في وزارة الثقافة والإعلام، أن ننجز بعضاً منها، كما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن بعض هذه المقررات والتوصيات متغيِّر لأنه يكون متناغماً مع الأحداث المحيطة بنا سواء في الداخل أو في الخارج»! ما هذا؟! أبهذا الكلام «التمييعي» و«التلبيسي» تبنى الثقافة السعودية وتتشكل رؤيتنا عن واقعنا الثقافي البائس؟! وأخيراً لنبق مع إرهاصات الملتقى الثالث ونقرأ تصريح نصرالله الذي قال فيه إنه «سيستكمل الأطروحات والقضايا التي طرحت في الملتقيين الأول والثاني، بهدف تحويل الأفكار الإجرائية، التي قدمت في ملتقى المثقفين السعوديين الثاني إلى أفكار أساسية، تتضمنها خطة وطنية للثقافة. كما يتقصد الملتقى إعادة هيكلة القطاع الثقافي بعد انتقال القطاعات الثقافية، التي كانت تحت إدارة جهات أخرى إلى وزارة الثقافة والإعلام، وتوفير المال أو التمويل الحكومي اللازم، لبناء قاعدة تحتية للثقافة، مثل القاعات والمتاحف ومقار للمكتبات العامة وأيضاً مراكز ثقافية المزمع إنشاؤها في العديد من مدن المملكة»! لنتفحص هذا التصريح ملياً: نصر الله - وعلى طريقة التلاعب بالمصطلحات - يدخلنا عمق مفاهيم لم تحدد أو يتفق عليها سلفاً، بكلام لا نعرف له «رأساً من عقب»! ولنا الحق أن نسأل نصر الله: ماذا نفهم بالله من قولك؟ ألا يذكركم هذا بمقولة حسني البرزان: «إذا أردت أن تعرف ماذا يحدث في إيطاليا فعليك أن تعرف ماذا يحدث في البرازيل»؟ نحن مع نصرالله، وإذا أردنا أن نعرف مقصوده ب «الأساسية» فعلينا معرفة ماذا يعني ب «الإجرائية»! كشف لنا نصرالله أن الثقافة قبل هذا الملتقى ليست لديها خطة وطنية، وأن ليست لها قاعدة تحتية، وليس هناك مال، والسؤال: إذا كان المال غير متوافر من سيدفع لهذا الملتقى؟ ثم من يغدق على المهرجانات والملتقيات الأخرى أموالاً طائلة؟ حتماً وزارة الإعلام هي التي تدفع لبعض برامجها التلفزيونية مبالغ كبيرة لا تستحقها، حتى قيل إن بعض البرامج - ومن بينها برنامج نصر الله «حدث وحوار» - ترصد لها موازنة كبيرة، وأخيراً وبما أن هذا الملتقى سعودي بامتياز فما العائد من تنفيع الأصدقاء العرب لحضور هذا الملتقى؟ هل عجزنا عن تسيير أمورنا بأنفسنا لنستعين بإخواننا العرب؟ لم أفهم. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] twitter | @almoziani