حتى اللغة، مهما بدت شاعرية ورحيمة، لا تقدر على ترويض وحشة الموت. وهنا مكمن العبث السيزيفي الجميل، الذي أبداه الروائي الإريتري أبوبكر حامد كهال، عندما اتخذ لروايته الصادرة عن دار الساقي، عنوان"تيتانكات أفريقية"في إشارة إلى قوارب الموت التي يستخدمها الأفارقة لتهريب البشر عبر البحار، إذ توحي المفارقة في اسم المراكب بالمصير المأسوي المنتظر للمغامرين بركوبها، بما هي وسيلة للفرار من شبه موت إلى موت مؤكد، فإماتة معظم المهاجرين - بحسب استراتيجية النص - وبقاء البطل - الراوي حياً حتى نهاية الرواية، ثم إعادة ترحيله إلى إريتريا مرة أخرى بعد مكابدات رحلة العذاب المنهكة، لم يكن عفوياً، بقدر ما كان نية مبيّتة في سياق السرد للإبقاء على شاهد ليروي ما أراده الروائي، عن معنى الحياة، وجدوى المحاولات العابثة، الواحدة تلو الأخرى. ولأنها مروية بلسان كائنات قدرية، مقتلعة من أرضها، ومعلقة على حافة الحياة، جاءت لغة كهال على تلك الدرجة من الرهافة، حيث الحديث الهامس عن كائنات معذّبة، موعودة بالفرار من البؤس إلى قدر الموت المحتّم، فالأرض التي لم تعد تشبه في وحشتها إلا القبر، تدفعهم خارج رحمها إلى سماسرة التهريب"وناس - ود الليل - المنتف"أو الوقوع في قبضة قطاع الطرق المتوحشين"الهمباتا"الذين يمتلكون أخطر الأسلحة وأفضل أنواع السيارات الصحراوية، لاقتناص المهاجرين والقضاء على أحلامهم بعد سرقتهم ثم تصفيتهم، إذ يتأسس قانون الصحراء على البقاء للأقسى، والأقل آدمية. وهنا يكمن سر هجاء الهجرة على لسان غالبية أبطالها، الذين يتحدرون من أطياف أفريقية مختلفة، لكنهم يجتمعون على فجائعية ذلك القدر، كما عبّر عنه المهاجر الإثيوبي بقوله:"أنا من إثيوبيا، والآن أود أن أعبّر أمامكم عن ندمي الشديد لانجراري الى هذه المغامرة". تلك هي لعنة الرحيل، المدفوعة بمسٍّ خفي يصعب فهمه، التي جعلت من أفريقيا لكثرة الهجرات"خشبة مجوفة تعزف فيها الريح ألحان العدم". إنها"جرثومة الهجرة"التي تلقح العقول، أو هو الجرس الذي أسكرت دقاته رأس راوي ملحمة الفناء الأفريقية، الذي لازمته الألقاب كظله نتيجة خبراته وترحالاته"الأعرج ? الأواكس ? الشمام ? أمبسا"فهو نموذج للكائن المغامر الممتلئ بحب الحياة، لدرجة أنه تمكّن من"إغواء الساحرات"أو هكذا أراده أبوبكر كهال، كأمثولة للأفريقي العنيد، المعجون بعناصر الطبيعة. وقد أعاره، بصفته أحد المقاتلين السابقين في جبهة تحرير إريتريا، معرفته الجغرافية والتضاريسية والروحية، كما عبأه بخبراته اللافتة بمزايا وعادات وأمزجة الشعوب الأفريقية، فالرحلة التي انحشر فيها مع كومة من البشر في سيارة"رانج"للانطلاق من مدينة"أم درمان"إلى مدينة"الكفرة"الليبية، ثم مدينة"بن قردان"الحدودية، بعد أن تغيرت خطة الهجرة، كشفت عن درايته الواسعة بكل مكونات القارة السوداء، وما يتحرك عليها من بشر، إذ استعرض مباهج أفريقيا وخيرات أرضها في مقابل خطيئة الهجرة والحروب التي تطحنها، وشبح الموت الذي يخيم عليها، أو هكذا أراد أن يحتفي وعيه الأنطولوجي بناسه وأرضه. ربما لهذا السبب بالتحديد اشتهى في لحظة من لحظات فنائهم المحقق التماس بجسد"ترحاس اشملاس"الإريترية التي كانت ترافقهم في تلك الرحلة الوعرة، التي أرادها، نموذجاً أفريقياً للأنوثة والأمومة وحتى البنوة، كما شرحت صلتها بوالدها، إذ أيقظت فيه غريزة"حفظ النوع"بما أظهرته من نشاط وعاطفة أمومية تكفي العالم، بشهادة السائق، حين كانت القافلة تتعرض لطلقات الرصاص، ونفاد الماء، وثوران الرمال، وخسارات الأرواح، خصوصاً الشاب الإريتري"اسقدوم مسفن"الذي أصبح في النزع الأخير بعد مطاردات اللصوص. وعندما غاب عن الوعي صارت تولج سبابتها في تجويف فمه وتخرج منه الرمل، واستمرت تقطر في بلعومه قطرات بولها الحريفة لأيام، إلى أن مات فأضجعوه إلى جانب اريتريين آخرين وصومالي تحت طبقة من الرمال ومضوا. من ذلك الالتصاق الحميمي بالأرض الطاردة، استمدت شخصيات الرواية جذوتها، كما اكتسبت جاذبيتها ومبررات حضورها الفني، أي من المثابرة على العبور، وإتقان شروط صراع البقاء، وبأسطرة الكائن الأفريقي، كما تجلى ذلك الإصرار بحسه التاريخي في شخصية الليبيري سوانيق مالوك إذ أضفى عليه سمة أسطورية، فهو سليل خرافة أو عائلة أفريقية حالمة. فقد كان يتأبط غيتاره الذي لم يفارقه منذ كان في ال14 من عمره، ويردد الدندنات التي يستلها من فظائع حروب ليبيريا الأهلية، ويحمل على الدوام ما يسميه مذكرات"مالوك الثاني"، وهي حزمة من الأوراق مبللة بقصائد الحنين. ولأنه صانع أساطير مثل جده الذي أراد أن يبني مركباً هائلاً يجوب به البحار، لم يتم العثور على جثته على رغم تحطم المركب الذي كان يقله، فصارت أخباره تتناقل عبر البحار، فقد أخبروهم"أنهم رأوا شخصاً يحمل على ظهره غيتاراً، وكان واقفاً فوق موجتين تؤرجحان برفق جسده المنتصب". إنه المؤرخ الرومانسي لعذابات رحلة الموت والانبعاث، وصانع أساطير ناسها"أسطورة ابن أسطورة". كما تفصح عن ذلك الحس الشاعري قصيدته الحزينة عبور التي جسد فيها بكلماته الأهوال والمخاطر التي تعترض الأفريقي المهاجر أثناء حلمه بالعبور إلى عالم أكثر شفقة"بلا تميمة.. عبرت بوابات حراسة.. زحفت مثل دودة.. خلال أسلاك شائكة.. ابتلعتني سبخات ملح.. أحاطتني كلاب الصحارى.. هرولت .. وسط أشجار شريرة.. أكلت ملابسي.. باغتني مطر.. رأيت ساقيّ تغوصان في مدافن طينية .. ذابت في السيل .. لكنني عبرت .. بيد أني الآن أريد تميمة لأعبر برازخ النار نحو قارات الثلج". ذلك هو قدر التيتانكات الأفريقية، التي أفزع مسماها الريّس عطية حين سمع بها للمرة الأولى، فصاح محتجاً وساخراً من الاريتريين"يخرب بيت أبوكم. إزاي جمعتوها كدا تايتانيكات؟ أنتو معاكم سيبويه هنا"مقترحاً عليهم تدليلها باسم أقل تراجيدية"حنين كده"بحسب تعبيره"يعني سفينة نوح مثلاً، أو أي سفينة ما تغرقش". ولم يكن الأمر بحاجة إلى نبوءة، فالمركب المعطوب أصلاً لم يصمد بما يكفي للعبور بهم إلى الضفة الأخرى، حتى عندما رموا جثة امرأة في عرض البحر، لاستعطاف السفن المحمّلة بالنفط، كما اقترح مالوك، لم يستجب لهم أحد، إلى أن غرق المركب فأصبحوا خبراً مفجعاً في قناة الرآي الايطالية، التي اعتادت عرض صور المراكب الهالكة، واستعراض صور الناجين في صدر نشراتها الإخبارية. وهكذا كان الموت في النهاية هو مآل معظم أولئك الحالمين، بمن فيهم ربان المركب علي خيرات كما رواها الراوي، بصفته شاهداً، إذ ظل"طافياً فوق خشبة من حطام المركب، وحوله أجساد كثيرة فارقتها الحياة، تلعب فيها أسماك شرسة، تقضم أثداء النساء"وعلى لسانه عبارة مرّة يخاطب بها الموت"أنت الكائن الوحيد بين الكائنات الذي لا يمنح دقيقة واحدة لوداع لائق"فيما تدور في رأسه كلمات مالوك الرثائية التي تؤرخ لرحلة وقوارب الموت"مراكبهم بلا أسماء... مثل قبور مجهولة... تواكبهم دلافين مرحة.. وتظللهم غيمات نوارس". ربما لهذا السبب أراد أبو بكر الكهال أن يموضع كل تلك الأوجاع والفراقات على إيقاع أغنية الفرحة الشجية، التي تحاكي فرحة الإنسان الأول ودهشته في الأرض، حين رأى للمرة الأولى امرأة، كما ينفلت لسان كاجي بغنائها، وكأنه أول رجل وجد في الحياة بحسب الأسطورة الأفريقية، إذ يؤديها ببريق عيون ضاحكة، وشفاه باسمة، وبصوت يصدر كلماته كمن يروي قصة. إنها الأغنية المتولدة من الشهقة... من اللخمة... من الدهشة... من الحياة نفسها... من الكمال الذي حققه خيال جدنا الفنان، جد البشر جميعاً، من رؤية مخلوق حلو ووديع، على غير توقع. * كاتب وناقد.