المسلمون الآن يعيشون في عصر يقتضي فيه أن تقابل المرأة الرجل، وتتكلم معه: الطبيبة، والممرضة، والصيدلانية، والمحامية وغيرها من المهن التي فرضها علينا واقع الأمر الذي نعيشه. وإن موضوع عمل المرأة في الإسلام لا خلاف عليه مادامت المرأة المسلمة ترعى حرمة الله. والأمثلة كثيرة على شتى المجالات، وصعب حصرها. ويمكن إيراد بعض الأمثلة عن عمل المرأة عبر العصور الإسلامية في أرض النبوة. كانت السيدة خديجة، رضي الله عنها، من النساء اللاتي عملن بالتجارة الخارجية، إذ كانت تملك شبكة تجارية واسعة. ومن الرجال الذين عملوا معها الرسول"صلى الله عليه وسلم". عن أسماء بنت أبي بكر قالت:"تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال، ولا مملوك، ولا شيء غير ناضح وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه وأسقي الماء وأخرز غربه وأعجن...وكنت أنقل من النوى من أرض الزبير على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ". في"الصحيحين"أن أم مبشر الأنصارية كانت تعمل في نخل لها. وأيدها رسول الله بقوله:"لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء إلا كانت له صدقة". وفي"صحيح مسلم"أن خالة جابر بن عبدالله أتت إلى النبي شاكية رجلاً زجرها، فقال لها صلى الله عليه وسلم:"بل فيدّي نخلك، فإنك عسى أن تصدّقي أو تفعلي معروفاً". روى ابن سعد:"أن ريطة بنت عبدالله بن معاوية الثقفية كانت امرأة صناعاً ? أي ماهرة في الصناعة ? فقالت: يا رسول الله، إني امرأة ذات صنعة، أبيع منها، وليس لي ولا لزوجي ولا لولدي شيء، فهل أنفق عليهم؟ فقال: لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم". وروى أيضاً"أن زينب بنت جحش زوج الرسول صلى الله عليه وسلم كانت امراة صناعة اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتبيع ما تصنعه". وعن سهل بن سعد قال:"جاءت امرأة ببردة... وقالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي". وعن الربيّع بنت معوذ بن عفراء قالت:"دخلت في نسوة من الأنصار على أسماء بنت مخربة، أم أبي جهل، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ابنها عبدالله بن أبي ربيعة يبعث إليها بعطر من اليمن، وكانت تبيعه إلى الأعطية، فكنا نشتري منها". كما ذكر صاحب"الإصابة"أن الحولاء العطارة، صحابية كانت تبيع العطر في المدينة. وأورد أيضاً أن مليكة، أم السائب بن الأقرع الثقفية، كانت تبيع العطر للنبي. قال ابن سعد في"الطبقات الكبرى"في معرض ترجمته لأم المنذر بنت قيس:"أسلمت أم المنذر وبايعت الرسول وروت عنه... وكانت تبيع التمر في سوق عكاظ". كما أورد صاحب"أسد الغابة"ذكر سلامة الضبية، التي ورد فيها الحديث الشريف بقولها:"مرّ بي النبي في بدء الإسلام وأنا أرعى الغنم لأهلي". وهناك قيلة أم بني أنمار التي قالت للرسول:"يا رسول الله، إني امرأة أبيع وأشتري". وعاتكة بنت خالد الخزاعية، أم معبد، زوج أكثم بن أبي الجون، التي نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق ودليلهما عبيدالله بن أريقط، في خيمتها، التي سميت فيما بعد"خيمة أم معبد"، وكانت امرأة بزرة تسقي وتطعم بفناء الكعبة، فسألوها لحماً ليشتروه، وكانت أم معبد مسلمة وقتذاك، وخيمتها هذه قد اتخذتها مطعماً أو دكاناً لبيع الأطعمة. قال صاحب"العقد الفريد":"قال إسحاق: إن أبا السمراء قال له: حججت فبدأت بالمدينة، فإني لمنصرف من قبر رسول الله، وإذا بامرأة بفناء المسجد تبيع من طرائف المدينة، وإذا هي في ناحية وحدها وعليها ثوبان خلقان". وروى الميداني أن عمر رضي الله عنه مر يوماً بسوق الليل ? وهي من أسواق المدينةالمنورة ? فرأى امرأة تبيع اللبن ومعها بنت شابة، فوقف عليهما وقال: من هذه منك؟ قالت: ابنتي، فأمر عاصماً ابنه فتزوجها، كما ورد في"أعلام النساء""أن عائشة العجمية كانت تاجرة في القرن الثامن الهجري". وكانت تتردد على مكةالمكرمة للتجارة، ووسائل السفر كانت جد شاقة، وقطع المسافات يأخذ شهوراً طويلة، إضافة إلى مخاطر الطريق. عن أبي سعيد الحراني، عن زياد بن عبدالله القرشي قال:"دخلت على هند بنت المهلب بن أبي صفرة، امرأة الحجاج بن يوسف، فرأيت في يدها مغزلاً، فقالت: أتغزلين وأنت امرأة أمير؟ قالت: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أطولكن طاقة، أعظمكن أجراً". وقال متمم العبدي:"خرجت من مكة زائراًٍ قبر النبي، فإني لبسوق الجحفة، إذ جارية تسوق بعيراً... فقلت لها: ألك أبوان؟ قالت: لي أم. فنظرت، فإذا امرأة تبيع الخرز على ظهر الطريق بالجحفة". وكان لامرأة من الحجاز نُول، سنة 100ه، في موضع بين المدينةومكة اسمه"مِلل"وكانت تعمل به، وتتقاضى أجر المنامة، وتقوم على خدمة النزلاء. قال ابن بطوطة في إحدى مشاهداته في رحلته إلى المدينةالمنورة:"واما نساء الباعة والسوقة فرأيتهن، وإحداهن تكون في العربة والخيل تجرها، وعلى رأسها البغطاق، وتأتي ومعها عبيدها بالغنم واللبن فتبيعه من الناس بالسلع العطرية". كان للنساء في عهد الرسول دور مهني، بما يسمى في وقتنا الحاضر مهنة المحاماة. فعلى سبيل المثال كان يطلق على أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية خطيبة النساء. أورد صاحب كتاب"التراتيب الإدارية":"أن أسماء بنت يزيد أتت النبي فقالت: إني رسول من ورائي جماعة من نساء المسلمين يقلن بقولي، وعلى مثل رأيي، أن الله بعثك إلى الرجال والنساء فآمنا بك". وعن ابن عباس رضي الله عنه قال:"جاءت امرأة إلى النبي فقالت: يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك". في عهد الخليفة العباسي المقتدر ظهرت المرأة قاضية تحكم بين الناس باسم الخليفة. وكان مرجع الأمر حينذاك إلى امرأتين: السيدة والدة المقتدر، وأم موسى القهرمانة. وكان لهما الرأي الأعلى في ما دق وجل من أمر الخلافة وشؤون الحكم. وقد عرض للسيدة أم المقتدر أن تروض النساء على القضاء، فاختارت قهرمانة لها تدعى"ثَمل"، وأمرتها أن تجلس بالرصافة للمظالم، وتنظر في كتب الناس يوماً في كل أسبوع. لقد ترك المسلمون الأوائل مهنة الطب والتمريض للنساء. وكان من النادر أن يمارس الرجال هذه المهنة في العصور الأولى. وقد اشتهر في هذه المهنة عدد كبير من النساء، وفي مقدمتهن رفيدة الأنصارية، التي جعلت لها خيمة في مسجد الرسول سميّت عيادة رفيدة. وكانت تداوي النساء والرجال معاً في زمن الحرب والسلم على السواء. ولما أصيب سعد بن معاذ في معركة الخندق، قال الرسول:"اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعود من قريب". وكعيبة بنت سعد، أم سنان الأسلمية، التي شهدت خيبر مع الرسول. قال ابن سعد في"الطبقات":"وهي التي كانت لها خيمة تداوي فيها المرضى والجرحى. كما أن هناك من النساء من كن يمارسن مهنة الختان، فقد ورد في الحديث أن حمزة قال لأبي دينار:"يا ابن مقطمة البظور. وكانت أمه أم أنمار مولاة شريق ختّانة بمكة". ومنهن من مارست مهنة خفاض الإناث، فعن علي رضي الله عنه قال:"إن رسول الله قال لأم عطية: إذا خفضت فأشمي، ولا تنهكي، فإنه أحسن للوجه وأرضى للزوج". ومنهن من مارست مهنة التوليد، كسلمى مولاة صفية بنت عبدالمطلب، التي قبّلت ماريا القبطية حينما ولدت إبراهيم. كما كان هناك الكثير من النساء اللاتي احترفن مهنة تجميل النساء والعرائس ليلة زفافهن، فممن احترفن تجميل النساء وتمشيطهن من المكيات، آمنة أخت عثمان بن عفان. وكانت المرأة التي تزين العرائس تعرف باسم القينة. يقول ابن حزم:"فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلفت النفقة عليه لا ترجع بشيء من ذلك بعد اليسار". من كل هذه القرائن والأحوال يستنبط من ذلك أن أهلية المرأة للعمل قيمة ثابتة لا تتبدل، ولا شرط على ممارسة المرأة للعمل إلا الالتزام بالخلق الرفيع والآداب العامة، مثلها مثل الرجل تماماً. * باحث في الشؤون الإسلامية