كان مجتمع المدينةالمنورة قبل وفي عهد رسول الله"صلى الله عليه وسلم"مجتمعاً تختلط فيه النساء بالرجال، وتشارك فيه المرأة في جميع مظاهر الحياة الاجتماعية. وكان الرسول يرى في العرف القائم ألا حاجة لمخالفته. ففي المدينةالمنورة كان الرجال والنساء يتوضؤون من إناء واحد. فعن عبدالله بن عمر: أن النساء والرجال كانوا يتوضؤون على عهد رسول الله من الإناء الواحد وفي لفظ آخر ويشرعون فيه جميعاً. وقد ذكر بعض المفسرين أن القصد هو الرجل وزوجه فقط، ولكن هناك أحاديث تنقض هذا التفسير، كحديث عبدالله بن عمر قوله: كانوا يتوضؤون جميعاً، قلت لمالك: الرجال والنساء؟ قال: نعم، قلت: زمن النبي؟ قال: نعم. أي أن وجه الاستغراب عند مالك يدعو للقول بخلاف التفسير. وفي حديث ابن أبي حازم عن سهل قال: كنا نفرح يوم الجمعة، قلت لسهل ولم؟ قال: كانت منا امرأة تجعل في مزرعة لها سلقاً... كنا ننصرف إليها بعد صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها. وورد في فتح الباري قصة الأسود العنسي والوفود التي كانت تنزل في دار رملة بنت الحارث ما نصه:"فكلام ابن سعد يدل على أن دارها كانت معدة لنزول الوفود... وأن مسيلمة والوفود نزلوا دار بنت الحارث، وكانت دارها معدة للوفود". وهذه الحادثة وقعت بعد آية نزول الحجاب بسنوات عدة. كانت المرأة في عهد الرسول تخالط الرجال وتبيع وتشتري. روي أن زينب بنت جحش زوج الرسول كانت امرأة صناع اليدين، فكانت تدبغ وتخرز وتبيع ما تصنعه. وأم السائب بن الأقرع الثقفية، كانت تبيع العطر للنبي. وعاتكة بنت خالد الخزاعية، التي نزل النبي وصاحبه أبو بكر الصديق ودليلهما عبيد الله بن أريقط، في خيمتها، التي سميت في ما بعد ب"خيمة أم معبد"هي كمطعم أو دكان لبيع الأطعمة في وقتنا الحاضر. عن أبي هريرة قال: أن رجلاً أتى النبي فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله"صلى الله عليه وسلم"من يضم ? أو يضيف ? هذا؟ فقال رجل من الأنصار، هو ثابت بن قيس أبو طلحة: أنا. فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان. أي أن الضيف جلس معهما قبل إطفاء السراج ورأى أم سليم زوجة أبي طلحة. وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: لما أراد أبو أسيد الساعدي أن يتزوج أم أسيد، حضر رسول الله في نفر من أصحابه، وكان هو الذي زوجها إياه، فصنعوا طعاماً، فكانت هي التي تقربه إلى النبي ومن معه. قال ابن حجر في شرح الحديث:"وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك". عيادة النساء للرجال كانت معروفة في عهد الرسول، وقد أفرد البخاري في صحيحه باباً سمّاه"عيادة النساء الرجال"، وذكر أن عائشة، رضي الله عنها، عادت بلالاً. وقال الإمام ابن حجر في فتح الباري: عادت أم الدرداء ? الصغرى ? رجلاً من أهل المسجد من الأنصار. وقد اعترض على الحديث بأن ذلك كان قبل الحجاب. قال ابن حجر: أجيب بأن ذلك لا يضير في ما ترجم له من عيادة المرأة الرجل، فإنه يجوز بشرط التستر. ورأيه في ذلك أن هذا الحديث لا يمكن أن يكون قبل الحجاب لأن أم الدرداء الصغرى توفيت بعد موت عثمان. قال الإمام النووي في شرحه:"جواز زيارة جماعة من الرجال للمرأة الصالحة وسماع كلامها". لقد ترك المسلمون الأوائل مهنة الطب والتمريض للنساء، وقد اشتهر فيها نساء كثيرات، في مقدمهن رفيدة الأنصارية، التي جعلت لها خيمة في مسجد الرسول سميت عيادة رفيدة. وكانت تداوي النساء والرجال معاً في زمن الحرب والسلم. وأميمة بنت قيس الغفارية، وكعيبة بنت سعد، وأم سنان الأسلمية، والربيع بنت معوذ الأنصارية، فكيف كن هؤلاء النسوة يقمن بهذا العمل من دون اختلاط؟ أما قضية التفريق بين الجنسين في الطواف، فأمر لم يكن في عهد الرسول، فعن ابن جريج قال: أخبرني عطا ? إذا منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال ? قال: وكيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: أي لعمري، لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين ? وتقصد الحجر الأسود ? قالت: انطلقي عنك، وأبت. ومن الملاحظ هنا أن عائشة رفضت مزاحمة الرجال، لما لزوجات الرسول من خصوصية، بينما قالت للمرأة أن تذهب وتستلم الحجر. إن قضية الحواجز التي توضع في المساجد كفاصل بين النساء والرجال ليس لها أصل في الشرع البتة. إن القول بأن الإسلام يمنع اختلاط المرأة بالرجل، ولهذا يجب أن تبتعد عن ممارسة أي نشاط اجتماعي أو سياسي لأنه يدعو للاختلاط، هو قول مردود على من يقوله بأن مجتمع المدينة في العهد النبوي كان يشهد ذلك الاختلاط في الأسواق وفي المسجد. كما أن الإسلام سمح للمرأة أن تتحدث للرجل في أمورها شريطة وجود أناس غيرهما. أما المحظور في الشرع فهو الخلوة غير الشرعية، التي يمكن أن نعطي مثالاً لها كزيارة رجل واحد لزوجة غاب عنها زوجها مغيبة. فقد منع النبي أن يزورها صديق واحد للزوج، بينما أباح أن يزورها أكثر من الواحد حتى تنفي شبهة الخلوة غير الشرعية، حتى وان كان عامل صيانة لغرض في المنزل. وقد جاء عن رسول الله أنه قال على المنبر: لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان. ان ظاهر الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية، أفلا يكون دخول اثنين أو ثلاثة من الرجال على امرأة وحيدة في دارها اختلاطاً؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ولا تأذن في بيته إلا بإذنه. قال الإمام ابن حجر:"في هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج بالإذن في بيته إلا بإذنه. روى ابن ماجه ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون. استمرت الحال في عصر الخلفاء الراشدين على ما كان عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم في مشاركة المرأة في مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية. فكانت المرأة المسلمة آنذاك تظهر خارج بيتها وفي الأسواق تبيع وتشتري، فإذا قابلت من المسلمين رجلاً سلمت عليه وسلم الرجل عليها. * باحث في الشؤون الإسلامية.