"الحياة خارج الإطارات مسلية أكثر"، هكذا يقول أورهان باموق وهو يفكك صورة مدينته"اسطنبول"، بعد خمسين سنة على ولادته، لدى عائلة ثرية، وجدت نفسها إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، تفقد سطوتها، تحت وطأة التحولات، وصعود طبقة الريفيين، هذه الطبقة التي اقتحمت المدينة، مع صعود موجة الاتاتوركية بقيم جديدة واستعراضية، تفتقد إلى الأصالة. في مذكراته"اسطنبول: الذاكرة والمدينة"التي ترجمها إلى العربية عبدالقادر عبد اللي منشورات وزارة الثقافة، دمشق،2006، يكتب أورهان باموق عما عاشه وخبره في أزقة اسطنبول بعين مفتوحة في اتساع إزاء أطياف مدينة افتقدت روحها ورائحتها، بإحساس من يعيش في مدينة أخرى لم تعد موجودة حقيقة، وإنما بقوة الذاكرة فحسب، فهي ليست المناظر التي يعشقها السائحون، كما تبدو في البطاقات البريدية. وتلح عليه صورة مدينة بلونين، شبه مظلمة ورصاصية كصور الأبيض والأسود. فالتغريب القسري أفقدها جمالها الطبيعي وروحها المحلية وتعدد ثقافاتها، ما وسمها إلى الأبد بحزن تاريخي تسرب إلى حجارتها وبيوتها الخشب وصفير السفن التي تبحر في البوسفور. وهو لن يفهم أهمية هذا التغريب إلا متأخراً:"ليس ثمة تناقض بين جمع رموز الثقافة العثمانية والتغريب"، والتأرجح بين الشرق والغرب، كان مخاضاً عسيراً، أفرز في نهاية المطاف، جيلاً من الكتاب الحزانى، أمثال أحمد راسم الذي كتب طوال نصف قرن كل شيء عن اسطنبول وأزقتها وعالمها السفلي. وحاول رشاد أكرم توثيق تاريخ العثمانيين من طريق ما كانت تنشره الصحف القديمة كبوصلة دقيقة لطبيعة الحياة في اسطنبول. ويتوقف أورهان باموق ملياً عند كتابات الرحالة والرسامين الغربيين، هؤلاء الذين أكدوا صورة أخرى للمدينة، وبتأثير هذه الكتابات والرسوم، حاول صاحب"الحياة الجديدة"أن يكون رساماً، إلى دراسته العمارة في الجامعة، بإلحاح زمن الأبيض والأسود، ورائحة البيت الأول الذي لم يغادره إلى لحظة كتابة هذه المذكرات، فالبيت كما يقول:"مركز العالم في رأسي، أكثر من كونه جمال غرف وأغراض". ويدمج صاحب رواية"اسمي أحمر"بين المذكرات الشخصية عن طفولته ومطلع شبابه وعشقه الأول، وتحولات المدينة والعائلة، بحنين إلى ذلك الزمن السعيد الآفل، مؤكداً على الدوام، حزن اسطنبول، وهي تفقد ملامحها القديمة تدريجاً، بموازاة تاريخ شخصي وذكريات ملتبسة. فأورهان باموق الذي يروي هنا يخاطب شخصاً آخر بالاسم نفسه، ويحاوره بألم، لنبش طفولة نائمة ومشاكسات مراهقة وصراعات عائلية، مع غياب شبه دائم لأب كان يعيش نزواته أمام الملأ، وأم غاضبة تسعى بكل طاقتها إلى ردم التصدعات التي أصابت العائلة، مالياً واجتماعياً، بعدما خسر الأب أمواله في صفقات فاشلة. وهو حين يلجأ إلى ما كتب عن اسطنبول، إنما يرغب في أعماقه في استعادة طفولته المنهوبة، الأمر الذي يجعل مشهد فيلم قديم بالأبيض والأسود، يبثه التلفزيون، وتعبر في خلفيته شوارع اسطنبول وبحرها وأماكنها المشهورة، كأنه مشهد لذكريات شخصية. يقول:"كان يسيطر عليّ أحياناً، شعور بأن ما أتابعه، ليس فيلماً، بل ذكرياتي، وأهتزّ حزناً للحظة". حزن اسطنبول ليس"مرضاً عابراً"، يوضح أورهان باموق، بل ينبع من الداخل باعتباره قدراً لا مفر منه، وكترجيع لهزائم مستمرة. وعلى هذا الأساس فإن الحزن الذي تقوم عليه الأغاني والأشعار التركية، هو مزيج من تصوف وقيود وفقدان، وما تحتاج إليه اسطنبول في الدرجة الأولى، رواية من طراز"أوليسيس"لكشف طوبوغرافيتها وتراجيديتها، والحفر عميقاً في روحها الهائمة بين الشرق والغرب. وربما بتأثير هذا الهاجس، اندفع أورهان باموق إلى مراجعة المدونات الصحافية اليومية للتعرف عن كثب الى مجريات الحياة اليومية، وروح الثقافة الشعبية أو"آداب العيش"لبلورة صورة اسطنبول وألوانها وروائحها وأصواتها وأمزجة كتابها. لكن المحطة التي قلبت حياته كانت في انخراطه في الرسم، ليس من موقع الهواية، إنما من جهة الاحتراف. وهو أول تعبير إبداعي صريح في مغادرة فوضى العيش. هكذا راح يستجلي صورة المدينة من ضفتها الثانية، ضفة الحلم، واكتشاف الجمال النائم في أسوار المدينة الخربة بصفته مخزن روحها السرية. وسيكتشف خلال رحلته مع الرسم، على عكس رسوم الرحالة الأجانب، أن مناظر الأمكنة الداخلية، ليست أقل أهمية من المناظر الخارجية، على الأقل في ما يخص الحزن التاريخي الذي يغلف روح اسطنبول، هذا الحزن الذي لم يتمكن رحالة غربيون من معاينته بدقة، أمثال غوتييه ونيرفال وفلوبير، في رحلاتهم إلى المدينة، في آخر القرن التاسع عشر، على رغم أن أورهان باموق، وهو يعيد قراءة هذه الكتابات، لم تفارقه النشوة، عندما يقع على جملة عابرة، تؤكد خصوصية هذا الحزن. فالرحالة"أعطوني حول مناظر اسطنبول القديمة وحياتها اليومية، أكثر مما أعطانيه كتاب اسطنبول الذين لا ينتبهون أبداً إلى مدينتهم". ولعل أبرز ما تعلمه صاحب"ثلج"من هؤلاء هو أهمية اكتشاف المنظر من زاوية حادة، قبل أن ينفتح على المشهد العمومي في زاوية منفرجة، فتحتل النافذة ركناً أساسياً في تسجيل انطباعاته، عندما يرسم منظراً خلوياً، كما يراه من نافذة بيته، أو ما يخزنه من صور عبر نافذة السيارة في جولاته التي لا ينساها برفقة أبيه:"ثمة مشاهد نراها من نافذة السيارة أو البيت أو السفينة، لأن الزمن والحياة ينتهيان بصعود أو هبوط مثل الموسيقى والرسم أو القصص، لكنّ مشاهد المدينة المتدفقة أمام أعيننا، ستبقى معنا كذكريات خارجة من الأحلام". ينهي أورهان باموق مذكراته بفكرة حاسمة، هي أن جوهر اسطنبول وكيمياءها السحرية، لا يحتاجان إلى رسام بل إلى روائي، وهو ما فعله لاحقاً بامتياز، ليغدو أكثر كاتب تركي إثارة للجدل.