خلال عملي في المجلس البلدي بجدة حرصت على زيارة مواقع التحديات العمرانية، وخلال عملي في الجامعة أحرص دائما على تشجيع طلبتي على زيارة المواقع للتعرف على أرض الواقع بمصداقية ودقة.. وزيارة المواقع لا تكتمل إلا عندما نشم رائحة الموقع، فمن خلال حاسة الشم نشعر بالوضع الصحيح لأرض الحال.. نتعرف من أنوفنا على ذاكرة الموقع وما تدلو به الأرض من ذكريات عن ماضيها وحاضرها وربما مستقبلها أيضا.. وكانت هناك تحديات كبرى في زيارة بحيرة الصرف الصحي في شمال شرق جدة عندما هددتنا بسكب محتواها المائي الملوث على مدينتنا قبل حوالى خمسمائة يوم، وفي الوقوف على حرائق المردم القديم منذ حوالى سبعمائة يوم فكلتاهما كانتا قاسيتين على أنوفنا.. ولكن الواقع هو أن أنوفنا ترشدنا إلى خبايا غير متوفرة لحواسنا الأخرى فتخيل أنك تتنفس حوالى 22300 مرة يوميا وكمية الهواء الداخلة إلى رئتيك تعادل محتوى مائتي ألف علبة بيبسي.. يوميا.. ويمر بعضها عبر أنفك.. وتحديدا عبر فتحات أنفك.. ولا تنس أن لديك أربع فتحات أنف.. اثنان في الخارج تراهما كلما رأيت وجهك.. واثنان في الداخل لا تراهما.. وللأسف أنه من النادر اليوم أن نجد هواء نقيا، فهو مليئ بالأجسام المعلقة بشكل أو آخر.. نتعرض طبعا لما يحمله الهواء من طيب وسيئ، بعضه رائع كروائح الزهور والفواكه الطازجة، والعطور الفرنسية، والخبز المكاوي الطازج، والقهوة الطازجة المطحونة، والغسيل النظيف.. وبعضها مزعج كرائحة «التتن»، والطوابير الطويلة في الصيف، وبعض الأشياء الأخرى التي سأترك تفاصيلها لمخيلتك ولذاكرتك.. وبالمناسبة فالشم والذاكرة مرتبطان ارتباطا وثيقا فكم منا يتوقف عند شم رائحة «الكشنة» أي البصل المقلي لأنه يعود بذاكرتنا إلى الماضي فيضيء ومضة إلى مطابخ أمهاتنا وإلى ذكريات عديدة بالرغم أنه مجرد حفنة بصل في زيت حار.. وكم من مرة تذكرنا آباءنا بمجرد شم عطر رجالي قديم. ولكن الشم لا ينحصر على النواحي الشخصية فحسب فهناك أيضا جوانبه العمرانية، فلكل مدينة رائحة مميزة تعكس ما «يطبخ» في أجوائها، تخيل مثلا أن الشي يصدر قطعا صغيرة من اللحم تتناثر في الأجواء لتنتهي في أنوفنا بعدما تتعلق في الجواء.. تخيل قطع «المبشور» و «الكباب» الطائر على ارتفاع مئات الأقدام.. وهناك مدن تتشبع أجواؤها بنفثات عوادم السيارات لدرجة أنك ترى الهواء وقد تغير لونه، وهناك العديد من المدن حول العالم لا توجد فيها خدمات صرف صحي كافية ولائقة ولذا فتجد روائحها فواحة وسيئة وتضيف الرطوبة أبعادا جديدة لأنها تذيب الروائح فتدخل أنوفنا وهي في حالة تأهب للانقضاض على حواسنا الغلبانة. أمنية هناك مدن أخرى تشتهر بروائحها الجميلة ومنها القدس العتيقة، وبالذات حارة العطارين المؤدية إلى ساحة الأقصى من غرب المدينة إلى شرقها وخصوصا أنها مغطاة مما يساهم في احتضان روائح العطور والزيوت الفواحة، ونقلها عبر التيارات الهوائية المحلية الهادئة إلى الحارات الأخرى في بيت المقدس.. أتمنى أن نتشرف بالصلاة في بيت المقدس، ونسعد باستنشاق روائحها الجميلة.. وإلى ذلك الحين، أتمنى أن لا تغيب عن حواسنا ولا عن بالنا ولا عن قلوبنا كلما دخلت أنوفنا حفنة من الروائح الجميلة.. اليوم وكل يوم. والله من وراء القصد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 122 مسافة ثم الرسالة