غزة تدافع عن نفسها بأضعف الإيمان، تنتفض، تتشبث بالحياة فيما يغرق العنف الصهيوني أزقتها وأحياءها بالموت، غزة ليست سوى"غيتو"كبير يضم مليون ونصف المليون فلسطيني، منهم مئات الآلاف من اللاجئين إثر نكبة 1948، وها هم القتلة الذين هندسوا النكبة يطاردونهم ويصادرون حقهم في الحياة بمزيج متوحش من المغولية والنازية، غزة لا تفترسها"هجمات"، ولا"غارات"ولا"عمليات"حلوة عمليات،، غزة تتعرض لعدوان، لحرب إبادة، وقذائف الإف 16 التي تغير الآن شكل الأرض وتضاريسها في القطاع المنكوب، وحمم الأباتشي التي لا تُبقي حجراً إلا قلبته في رفح وحي الزيتون وبيت لاهيا وخان يونس، لا تستهدف حماس ولا فتح ولا الجبهة الشعبية ولا الجهاد، بل كلها مجتمعة، وكل مكونات المجتمع الفلسطيني في غزة، تتهاوى القذائف على الأطفال، فتمزق أجسادهم، وتنثر أشلاءهم ذات اليمين وذات الشمال، وتحترق عائلات بأكملها تحت نيران القصف الذي يستهدف المدنيين بالأساس، وتسوى عشرات المساجد بالأرض، فترتفع بعض الأصوات منددة"بعدوان"الضحايا: إنها"صواريخ التنك"و"ألعاب حماس النارية"التي تحركها"أصابع إيران الخفية"، و"السلوك الإسرائيلي مفهوم،، فإسرائيل تتعرض للاستفزاز المتكرر من قبل حماس،، وتتحمل الوزر الأكبر"، و"التساهل مع حماس يجعل العالم العربي شريكاً في معاناة الفلسطينيين"، يندب أحدهم الوضع قائلاً إن قادة حماس جنوا على أنفسهم، مستشهداً بالنص القرآني:"يخربون بيوتهم بأيديهم"، والمفارقة أن هذا النص نزل في شأن يهود بني قريظة، والكاتب يسقطه على حماس، وفات الكاتب أن النص إنما ينطبق على الإسرائيليين في عدوانهم المجنون على غزة ورفضهم لكل الحلول لا على الضحايا الذين يقاومونه بما أوتوا من قوة، ثم يضيف أن"الجزار الإسرائيلي لم يستيقظ ذات صباح ليقول سأهاجم غزة هذا الصباح، ولكن المتحرشين به هم الذين جلبوها له على طبق من دم وشعارات غوغائية،،"، كاتب آخر يقول:"ربما لم نشاهد مستوى من الابتزاز العاطفي والاختباء خلف الدماء والجراحات والمقدسات مثلما تفعله حماس حالياً،،"، ويتساءل آخر هازئاً:"،، ما هي أجندة حماس؟ تحرير فلسطين من البحر إلى النهر؟ تلك خرافة يا أم عمرو؟"، وبكثير من العنصرية يتساءل أحدهم:"إذا تبرعنا فهل ستشكرون؟". غزة تدير ظهرها لهؤلاء وتقاوم التوحش الإسرائيلي، كما قاومته خلال أربعين عاماً، وفي مراحل مختلفة من الصراع لم تكن فيها حماس ولا إيران ولا صواريخ"عبثية"أو"كرتونية"كما تصفها أقلام أخرى، الآن استوت عند غزة الأنوار والظلم، عاشت أشهراً طويلة خلف حصار قاسٍ، منع عنها الماء والكهرباء والغذاء والدواء، ثم انهالت القذائف على أهلها الجوعى المتعبين، أملاً في أن تجهز على إرادتهم وتنال من عزيمتهم، فيركعون ويسلمون، كما ركع غيرهم في بلاط أولمرت، واحتضنه مراراً حتى ألف أنفاسه ورائحته، وحفظ ملامحه وتقاسيمه، ثم لم يظفر منه بعد ذلك حتى بتفكيك مستوطنة، تدرك غزة حقيقة المعركة وطبيعة العدو وهمجيته، وتعرف أن التشبث بالحقوق هو الذي يدفع العدو إلى مراجعة حساباته، ثبات الغزيين على اختلاف أطيافهم هو ما أصاب إسرائيل بالإحباط، وأصاب أصدقاءها بالدوار، غزة تعلمت الدرس، لا نزوح، لا استسلام، لا هزيمة بعد اليوم، تعرف غزة لماذا اجترأ عليها"المجتمع الدولي"، وأدار الظهر لها"مجلس الأمن"، وخذلها العرب، فلم يعقدوا من أجل مأساتها"قمة"، مستحضرة قول الشاعر العربي: "لو كنتُ من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا" تتذكر عرب الجاهلية الذين لم يكونوا ينامون على الضيم ولا يخذلون الجار، ومما جال بخاطرها قول الشاعر: وما ضرَّنا أنَّا قليلٌ عديدنا وجارُنا عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ وقول فارس عربي قرر أن يثأر لمقتل عدد من قومه:"اليوم خمر وغداً أمر"، لكن خمر"التصهين"لا"إفاقة"منها، الحرب على غزة لم تبدأ قبل أسبوعين، فقد كان الحصار الطويل وهو عمل من أعمال الحرب يقتل أبناءها ويحيل حياتهم إلى جحيم، وكما قال مواطن مصري بسيط على شاشة"الجزيرة":"هم أصلاً من شهور مش لاقيين لقمة ياكلوها"، ومع هذا لم نسمع أحداً يدين الحصار، ولا يرفع صوته بالمطالبة برفعه، وكان اللوم كله منصباً على المحاصَرين، والحكومة التي تمسك بمقاليد الأمور في غزة، وحدها"حماس"اليد القذرة في هذا الصراع، وحدها التي تخرق التهدئة، وتتخذ الغزيين رهائن من أجل تحقيق أجندتها السياسية، وهي التي يختبئ قادتها في أقبية، أو يتترسون بالمدنيين، وهي التي تنوي تحويل القطاع إلى"إمارة إسلامية"لأنها في الأصل امتداد لحركة"الإخوان المسلمين"، ولذا فهي خطر على مصر، وعلى الأنظمة"المعتدلة"في المنطقة،، وسلسلة لا تنتهي من الدعاية الصهيونية المنهمرة من أقلام عربية، ما يدعو إلى الأسى أن هناك تياراً صحافياً عربياً يتماهى مع إسرائيل في عدوانها على غزة، لأنه يستهدف فيما يستهدف"حماس"، ولذا نسمع الأخبار تُصاغ وتلوَّن لتوحي بأن المعركة موجهة إلى حماس وحدها"إلى بنيتها التحتية، ومقارها الأمنية، خذ مثلاً هذه العناوين التي تصدرت شاشة فضائية إخبارية عربية في الأيام القليلة الماضية:"الجيش الإسرائيلي يحذر السكان من إيواء عناصر من حماس"3 كانون الثاني/ يناير 2009"معارك عنيفة بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي حماس"5 كانون الثاني/ يناير 2009،"اشتباك بين دبابات إسرائيلية وحماس"3 كانون الثاني/ يناير 2009،، كيف يمكن لدبابات أن تشتبك مع حماس؟ من"حماس"هذه؟ أهي كتائب القسام أم بعض أفرادها أم عدد من نواب الحركة المنتخبين وقادتها السياسيين؟ وأين الفصائل الأخرى التي تقاتل على الأرض مثل شهداء الأقصى وسرايا القدس وألوية الناصر صلاح الدين؟ الفضائية ذاتها أوردت خبر قصف مدرسة الأونروا، وحرصت على أن تذيِّله بتصريح للجيش الإسرائيلي يؤكد فيه أنه"رد على مدفع هاون"، مرة أخرى تدير غزة ظهرها لمن خذلوها وتخوض معركة البقاء، علمتها ضربة الجلاد أن تمشي على الجرح وتمشي ثم تمشي وتقاوم، غزة التي لم تركع أمام سورة الجوع، قررت أن تطفئ بدموعها حرائق القصف، وتداوي بصبرها أوجاع الثكل، تجوع غزة ولا تأكل بثدييها، ماذا ستفعل إسرائيل أكثر مما فعلت؟ هي لم تتوقف يوماً عن العنف، وكان استهداف المدنيين وتهجيرهم لب الاستراتيجية الصهيونية عبر السنين، وليس نتاجاً لصواريخ المقاومة، ينسى الكثيرون في غمرة الدعاية الإسرائيلية و"الإغراق"الخطابي حول"الإرهاب"أن إسرائيل لم تجنح للسلم يوماً، وأنها لم تقبل مبادرات التسوية، بما في ذلك المبادرة العربية، كما أن حلفاءها رفضوا كل يد ممدودة للصلح معها، ينسى كثير من العرب أن أمتهم ليست أمة مبادرات، ولا يليق بها ذلك، لا سيما في الوقت الذي ينتهج أعداؤهم أسلوب"الغارات"لا المبادرات، ينسى الكثيرون أن الاحتلال هو أصل المشكلة، لا الصواريخ ولا المعابر ولا العمليات الفدائية، إنه اغتصاب الأرض وتطويقها بالجدران ومصادرة الماء واقتلاع الأشجار واحتقار آدمية الفلسطيني والنظر إليه بوصفه ناقص الإنسانية SUBHUMAN، وممارسة أبشع أنواع العنصرية ضده، غزة ترفض المعادلة الصهيونية والغربية التي ترى أن الدم الإسرائيلي أنقى وأغلى من الدم العربي، غزة أعادت القضية إلى المربع الأول، أعادت التذكير بنصاعة القضية وأطاحت أقنعة الزيف، لم توجد قط ظلال رمادية بين الضحية والجلاد، وها هي أشلاء الغزيين أمام عدسات الكاميرات تجدد هذه الحقيقة، ربما كانت غزة نقطة التحول، في الحقيقة، غزة مشهد آخر من مشاهد الصراع بين الحضارة والهمجية، وكما قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فإن ما تقترفه إسرائيل من"مذابح ضد الفلسطينيين يفتح جروحاً يصعب شفاؤها في ضمير الإنسانية"، واصفاً هذه المذابح بأنها"نقطة سوداء في تاريخ الإنسانية"، ربما تنسج غزة بدماء أطفالها صبحاً أكثر إشراقاً وعالماً أكثر عدلاً، غزة هاشم نسبة إلى احتضانها جدث هاشم بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم والتي تسمى في أسفار الإنجيل"القوية"قررت أن تختزل في قبضتها مئات الملايين من المدافعين عن هوية الأرض الفلسطينية وجغرافيتها وتاريخها، وعن حرية العرب والمسلمين وكرامتهم، عيوننا إلى غزة ترحل كل يوم،، أو كما قال الإمام الشافعي المولود في حي الزيتون بغزة: وإني لمشتاقٌ إلى أرض غزة وإن خانني بعد التفرق كتماني سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بتُربها كحَلتُ بها من شدة الشوق أجفاني * أكاديمي وصحافي سعودي ahmadr@alhayat،com