شهد شهر آيار مايو الماضي تساؤلات كثيرة عن مستقبل روسيا الاتحادية بعد عهد الرئيس المنتهية ولايته فلاديمير بوتين، إذ شهدت فترتا ولايته ملاحم عملية انتقلت فيها روسيا من الأزمات الاقتصادية، وضعف المواقف السياسية الخارجية، إلى نمو اقتصادي قوي صاحبه تطور في الصناعة العسكرية والناتج المحلي، مع حضور سياسي قوي أعاد للأذهان ملامح الحرب الباردة، ثم مواجهات سياسية مع الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوربي للحفاظ على العمق الاستراتيجي الروسي، فعملت روسيا بوتين على إخراج أميركا من بعض مناطق النفوذ الروسي. انتهت هذه المرحلة بجملة من الإصلاحات الداخلية، بدأت بعدها روسيا مرحلة دولية جديدة في عهد الرئيس الجديد ديمتري مدفيديف، وهو الرجل الذي شارك كأحد الأقطاب الرئيسية لفريق عمل الرئيس بوتين لوضع استراتيجية إعادة بناء روسيا ورسم المستقبل الروسي وفق رؤية وطنية جديدة وجريئة، فهل سيكون مدفيديف الرجل السياسي المناسب لتنفيذ برامج المرحلة القادمة وهي مرحلة أشد من فترتي رئاسة بوتين، حيث مواصلة الإنجازات على المستوى المحلي، ومعايشة الأبعاد الخارجية المتعددة، ففي نهاية الفترة الرئاسية الثانية لبوتين دخلت روسيا في مواجهات متعمدة مع القوى الدولية الأخرى، فكيف سيكون مدفيديف؟ وهل ستتحقق آمال أميركا في إعادة روسيا ولو خطوات قليلة إلى مرحلة رئاسة يلتسين؟ وهل ستتحقق تطلعات بوش ووزيرة خارجيته رايس، بأن يكون مدفيديف أكثر ليونة من بوتين؟ أم سيثبت مدفيديف حقيقة ما صرح به بوتين بأن التفاوض مع روسيا في عهد مدفيديف لن يكون بأيسر من مراحل التفاوض التي تمت في عهده؟ التساؤلات كثيرة جداً، وواقعية جداً فهل سيشهد العالم مرحلة روسية جديدة في عهد رئيس جديد. من دون أية مقدمات دخل مدفيديف بروسيا مرحلة المواجهات السياسية الدولية، ويبدو أنه سيكون صعب المراس أكثر من سابقه، وسيشهد العالم معه سجالاً سياسياً بحُلة عسكرية ليست بعيدة عن مظاهر الحرب الباردة، ولعل هذا شيء مما يحتاجه العالم على وجه الحقيقة تحقيقاً للمصالح الوطنية للدول بعيداً عن لهاث بعض ساسة الدول، وخصوصاً الشرق أوسطية، لتحقيق المطالب والمطامع والتطلعات الأميركية في المنطقة. لم يدم الانتظار والترقب الدولي طويلاً، فقد جاءت أحداث جورجيا، أو بعبارة أخرى قدمت جورجيا نفسها ضحية لمواجهة المرحلة الروسية الحازمة، وتجلى الحزم الروسي في سرعة الرد العسكري على التحرك الجورجي، واستخدمت روسيا وللمرة الأولى منذ استقلالها قوتها العسكرية خارج الحدود، وبشكل قوي ومتنوع تجاوز كل التوقعات بالنظر إلى طبيعة الهدوء أو البرود الروسي في القضايا الدولية، قياساً على موقفها من الاحتلال الأميركي للعراق والممارسات الأميركية التعسفية في المنطقة، كما صاحب التحرك العسكري الروسي تحرك سياسي عنيف ليس في مواجهة الولاياتالمتحدة الأميركية بل والناتو وأعلنت روسيا، في سبيل تحقيق مصالحها، استعدادها وقف التعاون مع الناتو بل وقطع العلاقات معه، وهذا يثير تساؤلات كثيرة عن المستقبل السياسي الدولي؟ فالمشكلة الروسية الجورجية تحولت من صبغتها السياسية الإقليمية إلى مواجهة عسكرية حسمت سريعاً، ولم يتوقف الأمر هنا بل تلا ذلك تحقيق مكاسب على الواقع من خلال تحريك مشروع استقلال جمهورية أوسيتيا الجنوبية محل المشكلة، وإقليم أبخازيا الموالي لروسيا على البحر الأسود، وأصبحت هذه النتائج شيء من الواقع يصعب التحول عنه أو التفاوض بشأنه. - وفقاً للمرحلة الروسية الجديدة والأحداث الجورجية ، يمكن قراءة النقاط التالية : 1- يمكن تشبيه مرحلة وظروف رئاسة الرئيس مدفيديف ، بمرحلة رئاسة الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، إذ جاء بعد فترتي رئاسة رونالد ريجان ، الذي عمل خلال فترتي رئاسته إلى رسم استراتيجية نشر الليبرالية الأميركية في العالم مدعومة بتحركات سياسية وعسكرية، وجاء ذلك صراحة في خطاب تسليمه الرئاسة لبوش ، إذ اعتبر تسلم بوش للرئاسة بداية تطبيق هذه الاستراتيجية! وكذا جاءت رئاسة مدفيدف لروسيا تطبيقاً لاستراتيجية روسيا الجديدة المبنية على عقيدة وطنية واجهت فوضى وخلل الداخل الروسي بحزم، ثم بناء معالم جديدة تعيد روسيا للساحة الدولية كلاعب رئيسي ومؤثر واستغرق ذلك فترتي رئاسة بوتين. 2. في هذه المرحلة الحساسة جداً للطرفين الأميركي والروسي ، نجحت موسكو وفشلت أميركا، نجحت روسيا في أولى خطواتها الدولية الجديدة وفق سياستها الخارجية الجديدة التي أعلن عنها مدفيديف، وفشلت أميركا في الأشهر الأخيرة لرئاسة بوش الابن الجمهوري ، في وقت حاسم في الصراع على كرسي الرئاسة الأميركي مع الديموقراطيين ، وسيكون نموذجاً من نماذج فشل الجمهوريين المتهورين . 3. الخطوة الأميركية غير المحسوبة في جورجيا أفقدتها عنصراً هاماً في لعبتها مع روسيا، بل وأبعد من ذلك فالتجربة الجورجية وفشل الدعم الأميركي لجورجيا يفقد أميركا ثقة دول البلطيق التي تستند عليها في محاولة ابتعادها عن روسيا، إضافة إلى أن دول الاتحاد الأوربي ستراجع خطواتها المقبلة التي تأتي استجابة للمصالح الأميركية، فأوروبا في مأزق المواجهة أو على أقل تقدير العداء مع روسيا، وهي على خط تماس مباشر مع روسيا، وبينهما مصالح مشتركة الحاجة فيها أكبر للجانب الأوروبي. 4- النجاح الروسي في المواجهة العسكرية وتحقيق مصالح استراتيجية على الأرض، في أول تحرك عسكري روسي دولي بعد الاستقلال، سيشجع السياسة الخارجية الروسية لنشاط دولي أوسع لتوسيع مناطق النفوذ، أو لحماية مصالح أو حلفاء استراتيجيين، ولعل من ملامح ذلك تزويد أوزبكستان بمنظومة أسلحة عالية التقنية، خصوصاً في هذه الفترة! 5- وجَّه التحرك الأميركي في جورجيا ضربة عنيفة غير مباشرة للقوى الأميركية في الداخل الروسي، فالحزب الليبرالي الروسي الموالي لأميركا والذي يلعب دوراً نشطاً في التوجيه والتأثير في السياسات الروسية في اتجاه الغرب بخاصة الولاياتالمتحدة الأميركية، سيعاني كثيراً إذ سيصطدم مع المصالح الوطنية الروسية في مواجهة الغرب، فبشكل أو بآخر، روسيا في مواجهة حقيقية مع الغرب وفقاً للمصلحة الوطنية الروسية، ولن يقبل أي تحرك يضر بالمصالحة القومية. 6. أثبتت الأحداث الجورجية من جديد أن روسيا لا يمكن أن تساوم على منطقة القوقاز مهما كان الثمن، فمن تجاهل الموقف الروسي في قضية الشيشان باعتبارها قضية داخلية، أمامه الآن أوسيتيا وأبخازيا، إذ تخلت روسيا عن مصالحها واتفاقاتها مع الغرب، وحتى مفاوضاتها للانضمام لمنظمة التجارة العالمية، في مقابل حماية العمق الاستراتيجي الروسي في القوقاز، وقد يكون لهذا تداعياته لتوجه مزيد من الدول المؤثرة لحذو الخطوة الروسية بعدم الانضمام للمنظمة. 7. جورجيا هي الخاسر الأكبر في هذه القضية، فاستقلال أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا، ومن ثم انضمامها، المتوقع، للاتحاد الفيديرالي الروسي، سيفقد جورجيا منطقتين مهمتين سياسياً واقتصادياً، مع خلق روح عداء غير مبرر مع روسيا والتي عبر التاريخ كانت ترعى جورجيا من ستالين إلى شيفرنادزه، ولن تستطيع أميركا القيام بعمل حقيقي يعوض خسارة جورجيا على رغم مظاهر الدعم الإعلامي الأميركي، وزيارات كبار مسؤولي إدارة جورج بوش، ولا يتوقع أن يجازف الاتحاد الأوروبي بضم جورجيا لأي من تحالفاته في ظل المواجهة مع روسيا، فليس في حاجة لضم منطقة نزاع. 8- أخيراً: تمثل هذه الأحداث ضربة موجعة لاستراتيجية الغرب تجاه روسيا، والتي ترتكز على محورين: تجريد روسيا من روحها الوطنية على المدى القريب، والعمل على تفكيك وتقسيم روسيا على المدى البعيد بدءاً بنزع مناطق النفوذ الروسية المحايدة. - فماذا سيشهد العالم نهاية العقد الأول من هذا القرن؟ وهل سيكون ممهداً لمرحلة جديدة يشهدها العقد المقبل؟! * باحث سعودي في الشؤون الروسية. [email protected]