كان من المفترض أن يؤذن اختتام الحرب الباردة ببداية عصر جديد تمتنع فيه الدول الكبرى من إملاء سياساتها على الدول المجاورة. واجتياح روسياجورجيا هو مأساة ونذير شؤم. وتعيد محاولات موسكو القاسية استتباع الديموقراطية الجورجية الصغيرة الى الأذهان، الحقبة الستالينية. فوجوه الشبه كثيرة بين الهجوم الروسي على جورجيا وبين هجوم الاتحاد السوفياتي على بولندا، في 1939. ففي الحالين، توسلت موسكو القوة والعنف للسيطرة على دولة مجاورة ديموقراطية وصغيرة. ولكن في مستطاع المجتمع الدولي أن يحمل روسيا على إدراك ثمن اللجوء الى القوة لبلوغ مآرب إمبراطورية توسعية بائتة؟ ولا شك في أن موسكو زرعت بذور النزاع في جورجيا، في الأعوام الماضية. فهي حرضت أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وآجاريا على الانفصال، وعلى تقويض سيادة جورجيا. ومدت حكومات هذه الأقاليم المتمردة بالسلاح والمال، ومنحت الجنسية الروسية للانفصاليين. فاقمت موسكو وتيرة هذه الأعمال مع إعلان جورجيا ميلها الى الغرب والديموقراطية. والحق أن المجتمع الدولي لم يفلح في ثني روسيا عن مواصلة سياساتها هذه. وقد تفتقر خطوة حكومة جورجيا شن هجومها لبسط سيطرتها على اقليم أوسيتيا الجنوبية، الى الحكمة. ولكن مسارعة روسيا الى الرد عسكرياً هي دليل على أن الخطوة الجورجية لم تكن إلا ذريعة لاجتياح جورجيا، وقصف غوري، والعاصمة الجورجية، تبليسي. وليس عدوان روسيا على جورجيا حادثة عرضية معزولة. فبوتين، وشركاؤه في الكرملين، يرفضون قبول واقع ما بعد العهد السوفياتي. وأعلن بوتين أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو أسوأ كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. وقد تكون أوكرانيا مسرح الأزمة المقبلة، بعد أزمة جورجيا. فالقيادة الروسية لم تخف طعنها في سيادة أوكرانيا على أراضيها، خصوصاً على منطقة القرم. وأفضت الضغوط الروسية على مولدافيا، البلد السوفياتي الصغير السابق، الى تقسيمها. وتسعى موسكو الى عزل دول آسيا الوسطى، مثل كازاخستان وأوزبكستان، اقتصادياً. وفرضت عقوبات اقتصادية على دول البلطيق، لتوانيا ولاتفيا واستونيا، وشنت عليها حرباً الكترونية على شبكة الإنترنت. وعليه فاستقلال الدول السوفياتية السابقة هو على المحك. ويبدو أن روسيا تسعى الى إنشاء كيان يتعدى حدودها القومية الى حدود الدول السوفياتية السابقة، ويأتمر بقيادة الكرملين. فالمشاعر القومية متفشية في النخب الروسية. ويتوسل فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي، هذه المشاعر، وينفخ فيها، ويؤججها. ويفرض النزاع الروسي ? الجورجي على الغرب، وخصوصاً الولاياتالمتحدة، التزامات أخلاقية وجيو-استراتجية. فجورجيا، البلد الصغير الذي استقل بعد عقدين من الاحتلال السوفياتي، يستحق دعماً دولياً قوياً لا يقتصر على التصريحات. وجورجيا المستقلة هي شريان نفطي حيوي في العالم. ويمر خط نفط من باكو بأذربيجان عبر بحر قزوين الى جورجيا ومنها الى تركيا. وهذا الخط يزود الغرب بنفط آسيا الوسطى. وعلى الغرب أن يرد على روسيا رداً حازماً وواضحاً، وأن يتجنب الانزلاق الى حرب باردة جديدة. وعلى المجتمع الدولي والولاياتالمتحدة إدانة العدوان الروسي. وحريّ بباراك أوباما وجون ماكين، المرشحين الديموقراطي والجمهوري الأميركيين الى الرئاسة الأميركية، مساندة الرئيس بوش في رده على روسيا. وعلى روسيا أن تدرك مخاطر العزلة الدولية والحظر الدولي. فلكبار رجال الأعمال الروس حسابات كبيرة في المصارف الغربية. واحتمال تجميد الغرب هذه الأموال كبير في حال اندلاع حرب من طراز الحرب الباردة. وإذا لم تستعد جورجيا سيادتها، وشرط هذه السيادة نشر قوات حفظ سلام دولية غير روسية في أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، على الولاياتالمتحدة التلويح بمقاطعة الألعاب الأولمبية الشتوية بروسيا، في 2014، على ما سبق أن فعلت إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، في 1980 إثر اجتياح الاتحاد السوفياتي أفغانستان. وعلى الغرب أن يدعو روسيا الى المشاركة في النظام العالمي، وحملها على إدراك أن الحياة لن تكتب لطموحاتها القومية التوسعية في عالم طوى صفحة الإمبراطوريات. عن زبينغيو بريجينسكي،"تايم"الأميركية، 25/8/2008