تعد المعارك الأدبية ظاهرة من ظواهر الأوساط الثقافية في القديم والحديث، انتشرت في عصور الأدب القديمة... وفي السعودية، اندلعت معركة بين إبراهيم فلالي وعبدالله عبدالجبار وحسن قرشي في كتاب"المرصاد ومرصاد المرصاد ونقد المرصاد"، وبين عبدالقدوس الأنصاري ومحمد حسن عواد، تأسياً أو تأثراً بأجواء المعارك الأدبية في مصر بين الرافعي والعقاد، والعقاد وطه حسين. وقد كانت المعارك الأدبية تنتج نتاجاً فكرياً وثقافياً مثرياً في شتى عصور الآداب. وشهدت فترة الطفرة النقدية في سنوات الحداثة معارك أدبية بين أنصار البنيوية وأعدائها، وبين أنصار البنيوية وأنصار التفكيكية بعد ذلك، أثمرت جهوداً وكتابات نقدية أثرت الواقع الثقافي. والسؤال الذي نطرحه: لماذا تحولت أجواء المعارك الأدبية في الواقع الثقافي المحلي إلى قطيعة وهجران فكري متبادل؟ وهل يعد اختفاء المعارك الأدبية بمفهومها الكلاسيكي الجاد جواً صحياً؟ هل المشهد الثقافي النامي في كل مجتمع يحتاج إلى مثل هذه الأجواء؟ أم أنها تعد ظواهر غير إيجابية تخلصت المشاهد الأدبية المحلية منها؟ الكاتب سعود السويداء يرى أن النظر إلى المعارك الأدبية في تلك الحقب"باعتبارها دلالة على نوع من"العافية"الثقافية، هو افتراض وجيه". لكنه يؤكد على أمرين: الأول أن كثيراً من تلك المعارك كان الأدب آخر اهتماماتها، هذا ينطبق على صراع شوقي والعقاد،"القصر"و"الوفد"، وينطبق أيضاً على صراع" الخطيئة والتكفير"مع"الحداثة في ميزان الإسلام"، إذ كان الأدب مجرد ساحة صراع،"الوحيدة المتاحة آنذاك، لتيارين فكريين، أخذا الآن يصطرعان صراحة، ولم يعودا في حاجة إلى الأدب أو"النقد الأدبي"من هنا سهولة الإعلان عن موته". وينتقل السويداء لتوضيح الأمر الآخر الذي يجب التأكيد عليه وهو: انفجار الفضاء الإعلامي، فيستطرد:"إذا كان العالم تحول إلى قرية، فإنها قرية يملك كل واحد فيها قناته وجريدته الخاصة وموقعه الشخصي أيضاً على الانترنت"ويتابع: وإذا استثنينا غلاء الأسعار وسوق الأسهم، من الصعب في هذه الظروف التي ذكرت أن تجد قضية تثير الرأي العام حولها، وإذا حدث من الصعب أن تحتفظ بهذا الاهتمام فترة تكفي لإثارة غبار معركة من أي نوع. ومثلها مثل"الإخوانيات"أو" الخطابة"، لا أتوقع "للمعارك الأدبية"أن تظهر من جديد، لكنها بالطبع ليست ضرورية لاستعادة الحراك والجدل الثقافي والتفاعل، وهو ما أظن، على سبيل المثال فقط، أن منتديات الانترنت حققت أكثر بكثير من قنوات الثقافة التقليدية. أما الروائي صلاح القرشي فأكّد أن المعارك الأدبية الحقيقية،"كان لها تأثيرها الإيجابي والتاريخي لسبب مهم في نظره، وهو أن الدافع الرئيسي لها كان فكرياً حتى ولو انساقت بعد ذلك نحو ما هو شخصي. ويتابع:"هكذا كانت المعارك الأدبية بين زكي مبارك وطه حسين حول الفلسفة اليونانية، وبين العقاد وطه حسين وبين الرافعي والعقاد... الخ، هذا الدافع الفكري هو ما جعل تلك المعارك تزخر بالعمق المعرفي، وتتحول إلى نوع من النتاج الثقافي الكبير، ولهذا فإن الإجابة على السؤال: لماذا تحولت أجواء المعارك الأدبية في واقعنا المحلي إلى قطيعة وهجران ثقافي؟ هو أن هذه المعارك تنطلق بداية من شأن شخصي حتى ولو حاول أصحابها أن يتدثروا بالاختلاف الفكري أو الثقافي، بمعنى آخر هذه المعركة لا تنطلق من همّ ثقافي، ولكن تقودها غالباً مسألة المنافسة أو المناكفة لا أكثر". ويتساءل القرشي:"فهل يعد اختفاء المعارك الأدبية بمفهومها الجاد أو خفوت هذه المعارك جواً صحياً؟ ثم يجيب: لا يبدو لي ذلك، بل إنني أعتقد أن خفوت هذه المعارك وركودها هو في النهاية مثال لخفوت الثقافة وركودها...". فيما يؤكد الكاتب عبدالواحد اليحيائي أنه من غير المناسب أن يكون الحديث حول المعركة الأدبية من حيث هي ظاهرة، والسبب برأيه راجع إلى أن ميادين الصراع في كل مجالات الفكر"قامت وستبقى قائمة ما بقى على ظهر المعمورة إنسان، والأدب حياة، والحياة إنسان". لكنه يستدرك بأن الحديث،"يجب أن يكون عما خلفته هذه المعارك الأدبية من آثار، أسهمت في رقي الفكر الإنساني ومدى هذا الرقي. والواقع يشهد أن هذه المعارك تفاوتت في مدى التأثير وقوته بين السلب والإيجاب". وعما يتطلع إليه بهذا الشأن يقول إن المأمول هو"أن يعمل المثقفون على تقوية الإيجابي والتخفف، ونبذ السلبي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، عبر المزيد من المعرفة، والمزيد من وعي فقه الحوار وأصوله". أما الروائي عبدالحفيظ، فيقول إن الوسط الثقافي ما زال"يعاني من تبعات الحروب والمواجهات والخصومات التي عايشها المشهد الفكري والأدبي". ويرى أن غياب المعارك الأدبية"ليس مرهوناً بانحسار المعارك الحقيقية، وإنما بهذا الشعور المتشبع بمرارات كثيرة، ومثبطات كبيرة". ويؤكد أن غياب المعارك الأدبية"لا يؤثر كثيراً في بناء مفهوم ثقافي أو معرفي جديد، فلن يضعف ما فيه قوة ولن يزيد هزال ما هو خائر، إنما عبرت المعارك الأدبية منذ طه حسين والعقاد والمازني و الرافعي، ولدينا عبدالله بن خميس وحمد الجاسر، وأبو تراب الظاهري وعاتق البلادي وعبدالله جفري، عن زمن يحتدم بمقولات وقضايا كبرى". ويتابع قائلا:"أما أنا وأنت وشعراء الحزن عبدالله الزيد وعبدالله الصيخان ومحمد جبر الحربي، وتجليات الروائيين الأقل تجهماً على نحو إبراهيم الناصر الحميدان ورجاء عالم وتركي الحمد وغيرهم، فإننا بتنا في نأي عن مثل هذه المعارك، التي لا سند لها في معاضدة التجربة الأدبية والفكرية، بمعنى أنها قامت المعركة أم لم تقم أو انتهت بصلح، فلن يكون هناك جمالية مفترضة في صياغة هذا الخطاب المهم".