يكاد يكون الإنفلات الروائي الراهن في مشهدنا الأدبي ظاهرة ادبية، وتكاد تقترب هذه لأن تكون ظاهرة اجتماعية بامتياز ابداعاً وتلقياً، بل يكاد يكون هذا الكم الروائي مقدمة لانفجار كتابي آخر لم تتضح معالمه بعد. هذا الانفجار الروائي او كما يسميه عبدالله الغذامي"التسونامي"الكتابي الذي اندفع دفعةً واحدة بعد انحباس في مشهدنا الأدبي في نظري له ما يبرره موضوعياً وتاريخياً، والثيمة المشتركة او النغمة العالية التي أخذت تسم هذا النتاج الروائي الجديد في تشكله وتبلوره التجنيسي واقصد به الخوض في المسكوت عنه والاقتراب من التابو الاجتماعي بكل تمظهراته لها أبعادها النفسية وضغوطاتها المعرفية والتجربية وتأثيرها في تشكل هذه التجربة الراهنة في مستوى خصوصيتها وفردانيتها معاً، فظرف اللحظة الضاغطة يبدعها، وسقف حرية الكتابة المرتفع يدفع بها نحو المغامرة في أشكالها المتعدد لغةً وتخييلاً. ولابد - في يقيني - من أن يستقر هذا الاضطراب البوحي وتتضح قسماته الفنية وتتعدد خطاباته، عندما يحدث التراكم التجربي وتتحرر هذه المغامرة الكتابية من"بيوغرافيتها"ومن أغلالها التعبيرية متجاوزةً ضرورة الاحتمال التخييلي إلى حريته، ومن حريته الى معانقة فضاء التأمل الانساني عندما تنقضي فترة التأمل الداخلي الذي ما زال مستغرقاً فيه هذا الخطاب الروائي الجديد. إذاً لا شك هناك نهوض لجنس كتابة عبر روائية، ولا أقول نهوض لجنس الرواية، لأن الكتابة السردية الحالية، التي تقترب بتردد من مفهوم الرواية الحديثة وتقنياتها، لا تتوافر في محطاتها ولا في ظلالها على كل الشروط الروائية ولا على كل شروط علاقاتها الاجتماعية وتخييلاتها. هناك من الواضح هاجس ضاغط للبوح الذاتي توافرت مناخاته، بمعنى هناك ذاتية كتابية لقول كل شيء بأي طريقة، مستفيدة من هامش متسع حثيثاً لحرية الكتابة من دون إدراكٍ كافٍ للعبة الروائية ولا لشروط الكتابة، وأفق التحولات الذي تنطوي عليه في تراكمها وتركيباتها الفنية. في ما أنجز روائياً حتى اللحظة وكما قلت هناك بيوغرافيا كتابية - أدب الاعتراف - أبعد من أن تكون كتابة روائية مكتملة في شروطها التاريخية وتقنياتها الفنية، بما يمكن أن يشكل كلاً من عنصر الزمن والتحولات والأفكار والعقليات والتاريخ الاجتماعي ضفيرة متماسكة معادلاً موضوعياً في توليفة كتابية متجاوزة لواقعها ومضيفة اليه واقعاً جديداً محتملاً. إن الاحتمال التخييلي أحد أهم فنيات الكتابة الروائية الجديدة، بمعنى تجاوز مفهوم الانعكاس المرآوي إلى الانعكاس الاحتمالي الذي يعد بمثابة المكون المحوري للواقع الروائي المبدع، يقاربه في الشعر مفهوم الانزياح، فضمن هذين المفهومين - في اعتقادي - يبتعد القول الشعري والقول الروائي من أن يكونا مختزلين في صورة مطابقة لواقعهما المعاش، لذا فإن صورة الأشياء كلها: صورة القيم الاجتماعية، صورة المعاني وسيروراتها في القولين كصورة المرأة وصورة الرجل أو صورة الموقف الأخلاقي او صورة المجتمع في كليته الأخلاقية والقيمية ليست ممثلة بالضرورة في تفاصيلها ودقائقها في العمل الروائي، بل ليست هي على صورتها الصحيحة بل ما يمثل في الرواية هو صورة الواقع النسبي، اي الواقع متحولاً الى واقع تخييلي. كيف كان موقف النقد ازاء هذه التجربة الكتابية"الروائية"الفريدة في ظاهرتها بكل ما يعتورها من انكسارات وتأرجحات؟ للحقيقة أقول إننا لم نقرأ حتى الآن نقداً موضوعياً منصفاً للتجربة، بل ما قرأناه ليس الا نبشاً في ما بين الصدور والنوايا، واضعاً التجربة برمتها على مقصلة الخروج على التقاليد والقيم الاجتماعية والأخلاقية ما ذبل منها وما لم يذبل بعد. يقول الروائي المعروف ميلان كونديرا:"ان المعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة"، وانا أقول أن ما قدمته هذه التجربة الروائية الجديدة على الأقل في ملامحها الأولى هو معرفة بالذات، الذات في تشظيها وفي سعيها نحو التحقق. معرفة بموضوعها، بعالمها، بأشياء الواقع وعلاقاته المتضادة. هذه المعرفة البازغة في النصوص التي كتبت حتى الآن، بظلالها واندغاماتها هي ما كان على النقد ان يتوقف عندها في معالجاته للتجربة. وربما يصبح على النقد أن يتجاوز المعالجات السطحية والساذجة، كالبحث عن الموقف الأخلاقي في الرواية بمقاييس انعكاسية، ومدى تطابقه او انسجامه مع الموقف الأخلاقي لمجتمعه، وان يتجاوز معالجات البحث عن صورة المرأة والرجل بنفس أخلاقي، إذ إن رصد هذه الصورة بنفس انطولوجي معرفي وتقني ليس بغريب في النقد الروائي، عندئذ يصبح تقويم العمل الروائي بمدى ما انحاز اليه لواقعه او انتصر فيه لقيمه واعرافه ليس بذي أهمية. فالرواية هنا ليست بياناً أخلاقياً او مرافعةً تدبيجية لواقع معاش. العمل الروائي هو ابداع تخييلي، استيهاماً لأكثر من واقع ولأكثر من حالة ولأكثر من موقف خالق لموقف فني جديد لا يمت بصلة لواقعه الآخر، إلا في منطق تطوره وقوانينه. النقد الروائي الجديد معني هنا بتطوير طريقة تلقي النص وتأويل مغامراته وكشوفاته الفنية، وتثمين هذه المغامرة الكتابية دفعاً له نحو مزيد من الكشف والتعرية والجرأة اللغوية، كوسيلة لكشف المزيد من طبقات الظلمة في الذات العالم الفردي والمزيد من ظلمات الموضوع العالم الخارجي، في درجاته المتصاعدة من الواقعي الى الكوني. فالنقد الروائي كما يقول الناقد المغربي محمد برادة ليس من مهماته ولا وظائفه"أن يطلب من الرواية أن تكون إيجابية أو متفائلة او حتى مسعفة على تمجيد قيم تتدثر بالمطلق وتحتمي بالمثل العليا"، فالتجربة الروائية الجديدة لا تؤخذ او ينبغي الا تؤخذ نقدياً بمقاييس تقاطعها او تضادها مع التابو الاجتماعي، وتجاوزاتها له بل بجرأتها في الاقتراب منه وبقدرتها اللغوية والتقنية على اختراق المناطق المحظورة والمظلمة، فلا قيمة للخطاب الروائي اذا لم يتأسس على المسكوت عنه في كل مكوناته التاريخية والواقعية والنفسية، في تاريخ الوجدان الجمعي، كما في تاريخ العقليات والأفكار والصيرورات اليومية، تاريخ الانكسارات الفردية والجمعية معاً، تاريخ الأشواق والاحلام بمعنى تاريخ الوعي كله. على ضوء هذا المنظور النقدي تتحدد قيمة العمل الروائي، من حيث رداءته او جودته تجديديته لا من حيث مطابقته او انسجامه مع عالمه الخارجي، وبمدى هويته الضيقة أو أخلاقياته المطلقة، واتساقه مع مواضعات مجتمعه، وثوابت أفكاره، بل من خلال صدقه الفني ومجاوزته ومغامرته اللغوية والجمالية في تعرية المسكوت عنه، وكشف المحتجب والغامض والمتوارى والتنقيب في الطبقات البعيدة للذات القلقة، اي قدرته على التقاط اللحظة المأزومة للفرد/ الذات في اشتياقاتها وأحلامها وانفلاتها من ربقة واقعه، وتصعيدها من تفردها الخاص والآني، إلى مشتركها الإنساني وعوالمها الممكنة.