لماذا الإعلام البديل؟ يأتي هذا الإعلام استجابة لجمود الإعلام السائد أوتكلس معظمه وتبعيته لجهات رسمية. ارتبط الإعلام السائد بالرقابة والأحادية وضعف الأداء وغير ذلك من المعوقات، وهناك آليتان مثيرتان وشائعتان تواكبان هذا الإعلام: الغربلة، وتحديد الأولويات. الغربلة أو حراسة البوابة تشير إلى قدرة شخص أو قسم أو هيئة رقابية ما على منع أو إجازة أو تحرير ما يبث، أو ما يسمى أحياناً"مقص الرقيب". أما تحديد الأولويات فتعني قدرة الإعلام على جذب اهتمام الجماهير إلى قضايا أو شخصيات محددة، ودفع قضايا وشخصيات أخرى إلى الظل. الجماهير التي تتعرض لقصف الرسائل الإعلامية المنهمرة من الفضائيات أو الصحف تقع غالباً ضحية هاتين الآليتين الجبارتين، فالنخب الواقفة على الأبواب، والمتحكمة في انسياب المعلومات وانتقاء الأخبار تضيق مساحة التنوع، وتفرض رواية واحدة للأحداث. ما الذي يمكن أن يفعله المواطن العادي ليفتح نوافذ جديدة في ظل هذا النموذج المهيمن؟ يتحدث بعض الخبراء والباحثين عن قدرة المواطن على مقاومة الإعلام السائد عبر التعرض لمصادر المعلومات التي تتسق مع قيمه ومواقفه، والابتعاد عن القنوات التي تصطدم مع تلك القيم والمواقف لاحظ مثلاً الدعوات إلى مقاطعة برنامج"شاعر المليون"في السعودية بعد نتيجته الأخيرة. قدرة المواطن على المقاومة تتجلى أيضاً في إنتاج تفسير"معارض"للنصوص الإعلامية. لنفترض مثلاً أن رجلاً عربياً وابنته شاهدا مقطعاً من فيلم يظهر"البطل"يقبّل حبيبته. الرجل قد يفاجأ بالأمر، ويتداركه بتفسير مغاير لمنتج الرسالة الإعلامية الفيلم قائلاً لابنته:"هذا عيب". الأب هنا يتقمص دور قائد الرأي أو المواطن النشط الذي ينخرط في عمل مقاوم يحد كثيراَ من سطوة الإعلام السائد. وهكذا فإن الجمهور ليس مستهلكاً سلبياً يلتهم كل ما يقذف إليه من دون تمييز، بل يستطيع أن يمارس حريته في"قراءة"النص متكئاً على معايير عدة كالقيم المحلية والإطار المرجعي والاتجاه السياسي. هذا التفسير المغاير يظهر أنه لا يوجد معنى مطلق وكوني للنص الاتصالي حتى وإن كانت هناك إيديولوجية مهيمنة عليه. قد يتأثر مشاهد عربي مثلاً بفيلم من أفلام هوليوود متفاعلاً مع الأحداث والأبطال، لكنه يرفض ويقاوم الدلالات العنيفة أو"غير الأخلاقية"التي انطوى عليها الفيلم. اختلاف التلقي والفهم لأحداث الفيلم لا يعني عدم شعبيته عند هذا المشاهد، فالعواطف والدموع ومشاعر النصر والفرح والحزن، وقيام العلاقات وذبولها - كل هذا الخليط الدرامي يشحذ الاهتمام ويغري بالمتابعة. لكنها متابعة تقود إلى استهلاك الصور لا المعاني بالضرورة، فالناس يستخدمون معايير ثقافية لتفسير الرسائل بطريقة قد تتناقض مع ما يهدف إليه مصممو هذه الرسائل ومنتجوها. إذن لسنا في حاجة إلى التأكيد أن الانفجار في عالم الاتصال والمعلومات فتح آفاقاً أكثر رحابة، وعمق وعي الناس موفراً لهم فرص الاختيار بين كم هائل من المصادر التي تثري عملية التنوع وتضعف الأحادية والتجانس. لكن الجماهير لا تكتفي في نشاطها المقاوم بالاختيار والمقاطعة وإنتاج التفسيرات الخاصة، بل تسعى أيضاً إلى إبداع أشكال من الاتصال وفتح نوافذ إعلامية تعبر من خلالها عن رأيها في ما يتعلق بالشأن العام، وهو ما صار يعرف بالإعلام البديل"alternative media". يقول عالم الاجتماع الفرنسي ميشال كروزيه إنه مهما بلغت درجة الضغوطات والإكراهات التي تقع على المواطن، فإن لدى هذا المواطن قدرة على الانفلات عبر هامش الحرية الذي يصنعه بنفسه وفقاً لما يعرف"بإيكولوجية الفعل"التي تشير إلى أن أي فعل يفلت تدريجاً من يد الفاعل الأول، ليدخل في عملية تطور تغير مساره. الإعلام البديل شكل من أشكال التمرد على الفاعل الأول، ووسيلة لالتماس الحرية في ظل الإصرار على تلوين المشهد الاجتماعي والسياسي بلون واحد. وهكذا انتشرت في طول العالم وعرضه وسائل مبتكرة للتعبير ألغت تحكم النخب في مصادر المعلومات. يشمل الإعلام البديل أشكال الاتصال المستقلة والمدارة من ناشطين أو منظمات غير حكومية، كمحطات الإذاعة والمجلات والمواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية، بل تدخل رسائل وكاميرا الهاتف المحمول في هذا النطاق الرحب الذي يزداد ثراء وتنوعاً. لنتذكر أن تفجيرات لندن التي وقعت في السابع من تموز يوليو 2005 تم تصويرها بكاميرا هاتف محمول. وكثير من الأحداث تلتقط صورها عند حدوثها كاميرات المحمول أو الفيديو، وتعيد فضائيات واسعة الانتشار مثل"CNN"بثها ناسبة اللقطة إلى أولئك الهواة وغير المحترفين الذين يبادرون إلى الفعل وخوض المغامرات. ارتبط صعود الإعلام البديل بانبعاث الحركات الدينية والقومية والقبلية، وبتطلعات الجماعات المهمشة والمغيبة إلى التعبير عن رأيها، وبظهور مؤسسات جديدة للمجتمع المدني، إضافة إلى القمع السياسي وانتهاكات حقوق الإنسان. يهدف الإعلام البديل إلى مقاومة الإعلام السائد ومساءلته ومنافسته. وإذ يمارس السائد أداءه بشكل"عمودي"وغير تفاعلي، يقدم البديل نفسه بوصفه"أفقياً"، ومتبوئاً مقعده في قلب الكفاح من أجل الديموقراطية والإصلاح. وقد شهدت السنوات الأخيرة ميلاد مواقع ومجلات إلكترونية عالمية كرست رسالتها لنقد الإعلام المهيمن و"فضح"أساليبه، في الوقت الذي تقدم فيه وجهات النظر البديلة لا سيما تلك التي تتعلق بقضايا الحروب والمجاعات واضطهاد الأقليات والانتهاكات الإنسانية. وإذا كان كثير من قراء الصحافة الورقية يعانون من إيصال آرائهم إليها، وتظهر إن ظهرت في قسم"البريد"أو"رسائل إلى المحرر"بعد"تحريرها"، فإن قنوات الإعلام البديل تمنحهم فرصة أوسع للمشاركة تتجاوز مجرد التعليقات إلى نشر المقالات والإسهام في صنع القرارات التحريرية. بل قد يصبح الكاتب المهمش البعيد عن الأضواء رئيس تحرير، يكتب ما يشاء من دون حسيب ولا رقيب. وهكذا في طرفة عين يتهاوى مفهوم الغربلة، وتنهار البوابة الفولاذية أمام القبضات العارية. يتحدى الإعلام البديل منافسه السائد بتزويد قرائه بتفسيرات مختلفة للواقع، وبتسليط الضوء على الناس العاديين بدلاً من"النجوم"أو المشاهير أو"صناع الأخبار". يغلب على مضامين هذا الإعلام تحليل الأحداث لا روايتها، ويسعى إلى تعبئة المواطنين وحشد الدعم للسياسات والمواقف المعارضة. يقدم ناشطو الإعلام البديل المعلومات اللازمة للحراك الاجتماعي والسياسي مثل تفاصيل اللقاءات والاعتصامات والتظاهرات وأرقام الهواتف وعناوين الشخصيات والجهات المستهدفة بالاحتجاج، مشكلين بذلك شبكات تضامنية بين المهتمين بقضايا الجمهور، وبهذا فإن الإعلام البديل يتجاوز مجرد تقديم المعلومات إلى التحفيز والحشد والإثارة. لكن هذا الإعلام ليس وليد عصر"الإنترنت". كان الإعلام البديل موجوداً بأشكال مختلفة تتراوح من النكتة السياسية إلى المنشورات والمطويات والأشرطة المسموعة والمرئية. واليوم يقفز الإعلام البديل خطوات هائلة فارضاً وجوده على عالم لا ينتهي من المعلومات. قد يقال الكثير عن إنجازات الإعلام البديل وأهميته في كسر احتكار الأخبار والآراء، لكن هذا لا يعني أن هذا الإعلام في منأى عن طرح أفكار متشددة أو خارجة عن المألوف أو مصادمة للقيم الاجتماعية والثقافية والدينية. كما تجب الإشارة إلى أنه غالباً ما يكون ضعيف التمويل، ومفتقراً إلى الحرفية. غير أن التقليل من شأن الإعلام البديل، أو التضييق عليه لم يعد يجدي نفعاً. الحقيقة أننا نشهد عصراً تتزايد فيه أهمية البديل المرتبط بالناس، فيما تتراجع أهمية السائد المرتبط بمصالح النخب وقوى النفوذ. * أكاديمي وصحافي سعودي