السؤال الأساسي حول الاتفاقيتين اللتين أقرهما البرلمان العراقي مع الادارة الأميركية هو: لماذا إقرار اتفاقية أمنية وأخرى اقتصادية وثقافية مع ادارة جورج بوش الراحلة قريباً؟ واستطراداً: أليس من الأفضل مفاوضة ادارة أوباما الجديدة التي أفصحت سابقاً، أثناء الحملة الانتخابية، عن استعداد أكيد للانسحاب من العراق خلال ستة عشر شهراً؟ قد يُقال، ان انتهاء ولاية الجيش الأميركي جزء من القوات المتعددة الجنسية كما حدد مجلس الأمن في نهاية العام الجاري، تفرض ملء الفراغ الأمني في العراق، وإضفاء شرعية دولية على القوات الأميركية وغيرها من القوات الرمزية المتبقية من بلدان أخرى... وإلا سادت الفوضى الأمنية، والقرصنة على الطريقة الصومالية، كما تطرح أوساط عراقية ودولية عدة. يمكن معالجة هذه الاشكالية باللجوء الى مجلس الأمن، وبالتفاهم مع الرئيس الأميركي المنتخب أوباما، وممثلي الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، للتوصل الى صيغة ما تؤدي الى تغطية الانسحاب الأميركي التدريجي من العراق ولو بعد حين. يصعب تصفية سلبيات الأزمة العراقية المتمادية باتفاقية ثنائية أميركية ? عراقية، وهناك حاجة لتفاهم دولي حول العراق، تماماً كما حصل في نهايات الحروب الكبرى المؤثّرة في مسار النظام الدولي. صحيح أن الرئيس الأميركي المنتخب أعرب عن رضاه عن اقرار الاتفاقيتين المذكورتين، بحيث تساعدان لاحقاً على الانسحاب من العراق، مع ضمان المصالح الأميركية، وهذا مطلب مستمر سواء حكم الجمهوريون أو الديموقراطيون. بيد أن المصالح العراقية العليا كانت تفرض تأجيل البت بهذا الموضوع المصيري، ريثما تتحدد أوليات العراق على مستوى الدولة السيّدة والموحدة. لا نغالي إذا قلنا إن المصالح الحزبية، وأحياناً الشخصية هي الحاسمة عند ساسة العراق. كثيراً ما جرّبوا الاستظلال بالطائفة، أو القومية، أو العشيرة، لتبرير مواقف سياسية وأمنية خطيرة. والنتيجة هي تهديد وحدة وأمن العراق، أي تهديد مصالح الشعب العراقي. كيف نفسّر تآكل الجبهات السنّية والشيعية والكردية تحت وطأة المصالح الفئوية والشخصية؟ رئيس الحكومة نوري المالكي يدعم مجالس الإسناد في جنوبالعراق، ورئيس الحكومة السابق ابراهيم الجعفري ينشق عن حزب الدعوة، ويعلن قيام تيار الإصلاح العراقي.. هذا بينما يستمر التيار الصدري في رفض أي اتفاق أميركي ? عراقي، تحت شعار أولوية انسحاب الاحتلال. وبصرف النظر عن التنسيق الايراني مع هذا التيار الشعبي، بحيث أنه يؤمّن غطاءً تقدمياً، فإن الانقسامات السياسية في صفوف شيعة العراق واضحة. الأمر ذاته يتكرر في الوسط السنّي، وبأشكال أخرى. لقد دخلت جبهتا التوافق والحوار في انقسامات ونزاعات داخلية. وعادتا الى دائرة الموافقة على الاتفاقيتين مع الأميركيين، وسط قنابل دخانية مضلّلة في الآونة الأخيرة. لقد ضغطتا على الحكومة العراقية من أجل اعادة التوازن الى الحكومة، أي تحسين ثقل هاتين الجبهتين في كعكة السلطة، تحت شعار الدفاع عن حقوق السنّة. وطالبتا بتوسيع دائرة العفو العام لتشمل أشخاصاً من النظام البعثي السابق، أما مصير العراق وطناً ودولة فإنه يبقى أسير التجاذب السياسي الفئوي الممجوج في ظل الاحتلال! الى ذلك، تدخل الجماعة الكردية في شمال العراق حال انقسام سياسي وحزبي. وهناك تهديد بانسحاب المؤيدين لنظام صدام حسين من الائتلاف الكردي، ما قد يؤدي الى فوضى أمنية في كردستان العراق. قد تردّ الحكومة العراقية على مجمل هذه الملاحظات بإقرار البرلمان لاجراء استفتاء شعبي على الاتفاقيتين في فترة لا تتجاوز نهاية شهر تموز يوليو المقبل. إن هذه الخطوة على أهميتها كانت مطلوبة سابقاً، أي قبل موافقة البرلمان على الاتفاقيتين بأغلبية عادية. وكثيراً ما دار نقاش بين النواب العراقيين حول ضرورة اقرار قانون يحدد شروط الموافقة على أي معاهدة مع الخارج. هل تحتاج الى أغلبية موصوفة أم عادية؟ نستنتج أن تمرير الاتفاقيتين كان السياسة التي اعتمدها العراقيون على مستوى الحكومة والبرلمان، وبالتنسيق مع قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ريموند أوديرنو والسفير رايان كروكر اللذين عبّرا عن سرورهما، واعتبرا الاتفاقيتين بمثابة شراكة متكافئة، في الوقت الذي هنّأ جورج بوش البرلمان العراقي بإقرار الاتفاق التاريخي، ويقصد الاتفاق الأمني، معتبراً هذا العمل بمثابة تطور ايجابي للديموقراطية العراقية. تمرير هاتين الاتفاقيتين لن يعالج أزمة العراق، ذات الأسباب والأبعاد الداخلية، والخارجية اقليمياً ودولياً. لقد تجمعت أسباب شتى، أمنية وسياسية واقتصادية، في السنوات الخمس الماضية لتقف وراء تعقيدات أزمة العراق. هذا الأمر كان متوقعاً قبل سقوط بغداد، وحسبنا مراجعة المطارحات الدولية في أروقة مجلس الأمن قبيل حرب الخليج الثالثة، وتحديداً في بدايات عام 2003، لندرك خطورة ما حصل ويحصل. الخطورة على المستوى الداخلي بين الجماعات المكوّنة للمجتمع الوطني العراقي، والتي لم تكن على هذه الحال من التشرذم حتى في أيام العثمانيين والانتداب البريطاني! والخطورة على المستوى الاقليمي مع بروز عاملين كبيرين: عامل ايراني مباشر وفاعل، وعامل تركي متحرك عسكرياً في شمال العراق. كلاهما له مصالح استراتيجية معلنة، وسياسات واضحة. أما المجتمع الدولي، الذي لم يقبل حرب الخليج الثالثة، بحجة وجود أسلحة دمار شامل في العراق، ولم يتيقن من وجود تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين.. فنجده اليوم يكيل الاتهامات لادارة جورج بوش، كونها سبّبت أزمة اقليمية ودولية كبيرة، في الوقت الذي تضاعف الارهاب في الشرق الأوسط والعالم، وتهدد الأمن العالمي بصورة غير مسبوقة.. هذه الاعتبارات وغيرها تشير الى محدودية دور الاتفاقيتين في معالجة أزمة العراق. * كاتب لبناني