تتصاعد الأزمة الاقتصادية والمالية الأميركية بشكل كبير، تاركة آثارها السلبية والمأسوية على الاقتصاد الأميركي وعلى اقتصاد العالم كله، نظراً لما يشكله حجم الاقتصاد الأميركي من الاقتصاد العالمي، إذ يمثل الاقتصاد الأميركي نحو ثلث اقتصاد العالم استيراداً وتصديراً، إنتاجاً وتشريعاُ، خصوصاً في المجالات المالية والمصرفية. لقد أصبحت الأزمة المالية الأميركية مقلقة بشكل كبير، نظراً لتشابك العلاقات المالية بينها وبين الدول الأخرى التي استثمرت كثيراً من فوائضها المالية في الولاياتالمتحدة الأميركية، سواء في المصارف أو في أصول عقارية أو صناعية. كان انهيار شركة أنرون البداية ومؤشراً للمشكلة المالية والاقتصادية التي تعصف الآن بالولاياتالمتحدة، لكن إدارة الرئيس جورج بوش تجاهلت المشكلة وبررت الانهيار بتبريرات غير مقنعة، وبدأت تركز على قضية العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب وإنجازاتها في هذه المجالات، وأنها تحقق تقدماً فيها. لقد رأى الجميع انهيار نظرية السوق من خلال القرارات التي اتخذتها الدول الغربية، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةوبريطانيا وغيرهما، بالتدخل في السوق، سواء بضخ أموال إلى الشركات والمصارف المتعثرة، أو السيطرة على هذه الشركات والمصارف بالتأميم، مثلما فعلت بريطانيا في مصرف براد فورد بينغلي وبلجيكا وغيرهما من الدول، داعية الدول الأخرى إلى سرعة التدخل في الاقتصاد وضخ الأموال لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي في الولاياتالمتحدة، ضاربة بعرض الحائط مبادئها ونظرياتها في الاقتصاد الحر وعدم تدخل الدولة فيه. لقد عجلت هذه الأزمة بانتهاء الأحادية القطبية لسياسة الولاياتالمتحدة الأميركية، وذلك من خلال عدم قدرتها على السيطرة على مجريات الأحداث التي حصلت في جورجيا، والملف النووي الإيراني، وبرنامج كوريا الشمالية النووي، ولبنان وغيرها من الأحداث التي أظهرت مدى خسارة الولاياتالمتحدة الأميركية لأحاديتها ونفوذها المطلق كمتحكم بالأحداث الدولية والمسير الوحيد لها، سواء في إثارتها أو إنهائها. لقد أظهرت أحداث القوقاز عجز الدول الغربية، وعلى رأسها أميركا، عن استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين روسيا على دخولها الأراضي الجورجية، وذلك بسبب"الفيتو"الروسي وضعف الهيمنة الأميركية في المؤسسات الدولية، ما أفسح المجال للدول الأخرى، التي كانت ضمن دائرة المعارضة الأميركية بالنسبة لسياساتها، بأن تحقق انفراجاً في ملفاتها كإيران وكوريا الشماليةوفنزويلا، ومقاومة الضغوط الأميركية وتحسين شروطها التفاوضية في ملفاتها المختلفة. لقد ظهرت مؤشرات عملية أفول الأحادية القطبية الأميركية، مثل اعتراف روسيا بجمهوريتي اوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وكذلك إجراء مناورات مشتركة مع فنزويلا في البحر الكاريبي، الذي يعتبر حديقة خلفية للولايات المتحدة الأميركية، وزيادة الموازنة العسكرية الروسية بنسبة كبيرة، لتظهر للمراقبين دلائل إضافية على أن زمن الهيمنة الأميركية بدأ في الأفول. أما بالنسبة للأحادية القطبية الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية، فقد ذكر وزير المال الألماني بيير شتاينبروغ،"أن الولاياتالمتحدة ستخسر مكانتها كقوة عظمى في النظام المالي العالمي، ويصبح نظاماً متعدد الأقطاب"، منتقداً النظام الرأسمالي الأنغلوساكسوني، إذ تشير الدلائل والمؤشرات إلى أن هناك أقطاباً اقتصادية قوية مثل الصين والهند وروسيا وألمانيا واليابان سيكون لها دور كبير ومؤثر في صياغة النظام الاقتصادي والمالي الجديد، خصوصاً بعد الضعف الذي انتاب الاقتصاد الأميركي منذ بداية حكم جورج بوش الابن. يعلم المسؤولون الأميركيون أن السبب الرئيس لانهيار ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي هو الاقتصاد الضعيف، الذي أُرهق بالإنفاق العسكري وغيره من البرامج التي كانت تخدم أهداف فئة محددة من الحزب الشيوعي، أو بالأحرى تخدم إيديولوجية معينة لم تستطع معالجة ذلك الاقتصاد عندما ظهرت بوادر انهياره. أما بالنسبة لمرشحي الرئاسة الأميركية باراك أوباما وجون مكاين، فإن الأزمة الاقتصادية والمالية فرضت نفسها على برامجهما الانتخابية كأولوية، مظهرة اتفاقهما على أن هناك أزمة سببتها الإدارة الحالية، بينما يختلفان على أساليب حلها، وهو ما يظهر مدى الاختلاف بين الجمهوريين والديموقراطيين على المسائل المالية. إن رفض مجلس النواب الأميركي لخطة بوش لإنقاذ الاقتصاد كان صفعة للإدارة الحالية، ومؤثرة بشكل كبير على حملة مكاين للرئاسة، ما يجعل هذه الأزمة ورقة في يد أوباما إذا استطاع أن يستغلها سياسياً، على رغم أن الرأي العام الأميركي لا يحبذ استغلال هذه القضايا لأغراض سياسية، إن الأزمة المالية الحالية لن تكون سهلة الحل بالنسبة للفائز بالانتخابات سواء اوباما أو مكاين. اعتقد أن الأزمة السياسية والاقتصادية التي تواجهها الولاياتالمتحدة الأميركية كانت نتيجة لسياسات تخبطية للإدارة الحالية ونهجها الإقصائي الذي اتبعته منذ سيطرة مجموعة المحافظين الجدد الذين اعتقدوا أن بإمكانهم السيطرة على العالم وفرض آرائهم وتوجهاتهم عليه، وانتهجوا الحرب والاحتلال والسيطرة على المؤسسات الدولية لخدمة أهدافهم وأغراضهم، متناسين أن العالم لن يكون حكراً على دولة بعينها، بل التعاون والمعايشة بين الشعوب هما ما يجعلان العالم أكثر أماناً، اقتصادياً وسياسياً. إن الإنفاق العسكري الهائل الذي اتبعته الإدارة الحالية، خصوصاً في العراق وأفغانستان، كان أحد الأسباب التي ساعدت على تطور هذه الأزمة المالية وتداعياتها. يجب على الإدارة الأميركية أن تتعامل مع هذه الأزمة بكل شفافية وصراحة، وتبتعد عن أساليب المراوغة والخداع التي استخدمتها لإقناع الرأي العام الأميركي في غزوها العراق ومبرراته، وتظهر الحقائق للعالم وللشعب الأميركي، إذا أرادت أن تكسب تعاطف الشعب الأميركي والعالم كله. والسؤال المطروح هو: هل يكون احتلال العراق وأفغانستان وما يسمى الحرب على الإرهاب هي سبباً في الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالولاياتالمتحدة الأميركية الآن وتؤثر فيها، مثلما أثر احتلال الاتحاد السوفياتي لأفغانستان باقتصاده، وكان أحد أسباب انهياره واختفائه من الخريطة السياسية؟ وهل يشهد العالم سقوط نظرية الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق بعد سقوط نظرية الاقتصاد الشمولي؟ * عضو مجلس الشورى