إن كان أحد في الولاياتالمتحدة لا يريد البحث في الموضوع إلا أن خبراء ومسؤولين في ألمانيا وأوروبا والعالم يعتقدون أن الهيمنة شبه المطلقة للاقتصاد"النيوليبرالي"الأميركي بلغت نهايتها، أو إلى مفترق في أقل تقدير، بعد تفجر أزمة الائتمان الأميركية الخانقة صيف 2007 وأزمة المال التي تبعتها وكادت تقضي على النظام المصرفي في البلاد، إضافة إلى أن تداعياتها التي تهدد اقتصادها واقتصادات دول أخرى. ويرى هؤلاء أن الدولة العظمى الوحيدة في العالم اليوم تعرضت قبل ذلك إلى الإنهاك والقضم بسبب الحروب التي شنتها على أفغانستان والعراق في السنوات الأخيرة بكلفة مالية ثقيلة جداً. وأمام أخطر أزمة مالية تشهدها الولاياتالمتحدة منذ نحو 08 سنة وضع هؤلاء الخبراء والسياسيون علامة استفهام كبيرة حول إمكان استمرار صلاح المدرسة الاقتصادية"النيوليبرالية"، لإدارة المال والاقتصاد من دون رابط أو وازع، بخاصة أن الرئيس الأميركي جورج بوش، المدافع الأكبر عنها اضطر إلى الموافقة على تدخل الحكومة في توجيه الاقتصاد، مستخدماً أسلوب التأميم الاشتراكي الطابع، ولو بصورة جزئية وموقتة، لمنع انهيار المصارف والشركات والتسبب بكارثة اقتصادية. ومعلوم أن اقتصاد السوق الاجتماعي في أوروبا الغربية يختلف اختلافاً كبيراً عن"النيوليبرالية"الأميركية، إذ أن الدول الأوروبية تحتفظ عموماً بحق التدخل والتوجيه والإبقاء على قطاع عام واسع، على رغم نزعة الخصخصة القائمة. وإضافة إلى الولاياتالمتحدة، لجأت بريطانيا وبلجيكا ودول أخرى إلى أسلوب التأميم الجزئي، كما أن فرنسا التي ترأس الاتحاد الأوروبي حالياً تتحرك في هذا الاتجاه، ودعت الدول الأعضاء فيه إلى إقرار الأمر بصورة جماعية للخروج من أزمة المال الخانقة، إلا أن ألمانيا لم توافق. ولا عجب في أن يرى أعداء الولاياتالمتحدة الألداء مثل فنزويلا وإيران"أن ساعة أفول الامبراطورية الأميركية"دنت، بخاصة أن خبراء وممثلين حكوميين في دول صديقة لواشنطن، مثل وزير المال الألماني بيير شتاينبروك، يعلنون تكراراً أن الولاياتالمتحدة"تسير حالياً على طريق فقدان مركزها كدولة عظمى في النظام المالي الدولي"وأن أوروبا وألمانيا في مرحلة فك ارتباطهما جزئياً بالاقتصاد الأميركي. كما أن وزيرة التعاون الاقتصادي والإنماء الألمانية هايديماري فيتشوريك تسويل، رأت أن الولاياتالمتحدة دفعت بنفسها إلى زقاق مسدود بواسطة طرق السوق المتطرفة التي اعتمدتها، مضيفة"أنها ما كنت تحلم يوماً بأن تلجأ الولاياتالمتحدةوبريطانيا إلى تأميم مصارف". ويعتقد الباحث السياسي جون غراي، أن العالم يعيش حالياً مرحلة تحول يتغير فيها ميزان القوى بين الدول العظمى بصورة لا رجوع فيها إلى الوراء. وكتب في مقالة نشرتها صحيفة"أوبزرفر"البريطانية أخيراً بما يشبه الحسم:"إن الهيمنة التي اكتسبتها الولاياتالمتحدة بعد الحرب العالمية الثانية انتهت". صحيح أنه إلى جانب ألمانيا واليابان وبريطانياوفرنسا، تسعى دولٌ صاعدة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل بكل ما أوتيت، إلى تحسين مواقعها بين القوى الاقتصادية العظمى. لكن لا يعرف بعد من الذي سيملأ مركز أميركا في العالم، علماً أن لا جدال حول بقاء اللغة الإنكليزية لغة الاقتصاد الدولي. ويتضح حتى إشعار آخر، بعد سقوط الجميع في زوبعة الأزمة، أن لا دولة مؤهلة حالياً لملء الفراغ ذلك أن الدول الصناعية الكبرى مضعضعة حالياً ويلفها الانكماش الاقتصادي، وتبخرت الآمال بفك ارتباط، ولو جزئي، عن الاقتصاد الأميركي. وحتى إشعار آخر أيضاً ستبقى بورصتا نيويورك ولندن أهم مراكز المال والتجارة في العالم، على رغم الانخفاض المستمر في عدد أصحاب البلايين الأميركيين على لائحة أكبر أغنياء العالم وازدياد الأثرياء الروس والهنود والمكسيكيين في المقابل. ويبدو أن الناطق الرسمي السابق باسم وزارة الخارجية الأميركية نيكولاس بورنز، وهو أستاذ السياسة الدولية حالياً في جامعة هارفرد، مقتنع بأن الموقع الطليعي للولايات المتحدة في العالم سيبقى على رغم الأزمة الاقتصادية التي تواجهها حالياً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سيطرتها العسكرية ونفوذها السياسي. لكنه يرى في المقابل، أنه سيكون على الرئيس الأميركي الجديد"مهمة تحقيق مصالح بلاده على المستويين السياسي والاقتصادي من خلال الحوار مع الدول الكبرى الأخرى". هذه الخلاصة لوحدها تفيد بأنه سيكون على الولاياتالمتحدة الاستعداد إلى التحاور والتعاون على المستوى الدولي، ومع المنظمات الدولية، ما يؤذن لمرحلة زمنية جديدة مغايرة لعقيدة بوش المرتكزة على وحدانية القرار الأميركي. ويعتقد خبراء أن التغيير سينسحب إيجاباً أيضاً على هيكليات وقرارات المنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين فرضت الولاياتالمتحدة عليهما سيطرتها وعقيدتها الليبرالية منذ عشرات السنين. والواقع أن الدول التي هللت لما أصاب الولاياتالمتحدة من انتكاسات، وتوقعت لها أفول مركزها المالي والاقتصادي، تواجه حالياً، وبعد تراجع سعر النفط والغاز، مأزقاً كبيراً وأفولاً في اعتدادها بقدراتها. نشر في العدد: 16701 ت.م: 25-12-2008 ص: 20 ط: الرياض