لم يكن سهلاً قرار أن أُقدم نفسي للقارئ كاتبةَ قصة، باحثة في العلوم الطبيعية، الفيزياء هي مجال دراستي الأكاديمية، وهي مجال عملي وانشغالي. والكتابة بالنسبة إلي ثوب العيد الذي أرتديه عندما أفرح، وهي أيضاً الشريان الذي يقطع نفسه ليسيل منه حزني الدفين، هي دنياي التي لا يدري بها إلا الأقربون، لا يدري بهواها إلا الأحبة، لم يكن سهلاً أن أعلن أني مغرمة بعالم الكتابة والعزف على أوتار الكلمة، مولعة أنا منذ حين بتسطير القصة في قالب فني اصطلح على تسميته قصصاً قصيرة. ومع اتخاذ القرار، كان لزاماً أن أختار ما بين اسم مستعار أستتر به، وأحتمي به من ثورة القبيلة عندما تثور، أو أن أعلن مَنْ أكون منذ القصة الأولى، وكان الاختيار الثاني اختياري، فإن أملك ما أقول فعليّ أن أرفع صوتي الذي ليس بعورة، وعليّ أن أبوح بكينونتي ككاتبة قصة. ومن أقاصيصي سأخبركم من أنتم، على غلاف المجموعة القصصية الأولى، كتبت اسمي الصريح، ورسمت على الغلاف مِكْحَلة، وهي - كما تعلمون - أداة لزينة المرأة في معظم الأحوال، ثم جئت بالكتاب لأبي الذي لم يُعلق، وجئت به لأمي ففرحت لاسمي المطبوع على غلاف كتاب ملون، ثم جئت به لأختي - رحمها الله - فقبّلت وجْنتي، وكانت القُبلة زادي للكتابة ولا تزال. دارت المجموعة دورتها الإعلامية وكان لها الترحيب في محيط النقد والضوء الإعلامي الجميل، والقبيلة لم تعترض ولم تحاكمني، كل المخاوف الأولي كانت وهماً صنعته سنوات من الخوف من إعلان اسم الأنثى ولو من الظهور في بطاقة عُرسها، فما بالك على غلاف يحكي أقاصيصها؟ المجموعة القصصية الثانية سمّيتها"أنثى"وكانت تدور حول أحاسيس أنثى تتحرك عند اقترابها من رجل يعني لها المعنى، أو تتجمد عندما يقترب منها رجل لا يعني لها سوى اللا معنى، خرجت أنثى بصوت أكثر حدة من سابقتها وأيضاً لاقت من الأصداء الجميلة ما لاقت. والقبيلة لم تغضب والمجتمع لم يعاقبني لأنني تحدثت عن رجل يُعدد الزوجات، لأن الشريعة قد أحلت له ذلك، ولم أعاقب لأنني تحدثت عن رجل المال يتزوج من ابنة السابعة عشرة من دون رضاها، فتفرح القبيلة وتموت هي، لم أُرفض لأنني كتبت عن رجل يطالب بحقوقه الزوجية من امرأة لا ترى نفسها في المرآة إلا مهشمة وخائفة من لعنات المجتمع. تقبل المجتمع أقاصيصي في مجموعاتها الأولى والثانية والثالثة، وكان الاحتفاء من الوسط الأدبي والأهلي مفاجأة حلوة، صرت بعدها في عداد كاتبات القصة في بلدي، ولم يعترضني حقل ألغام سوى محاولة الإعلام تسليط الضوء على ذات الكاتبة من دون كتابتها. وأزعم أن ذلك أدى ويؤدي إلى خروج كاتباتنا ومبدعاتنا في المنطقة من الساحة الأدبية، وذلك رغبة في الأمن والسلامة، ورغبة في عدم الإضرار بالأحبة، من الذكور خصوصاً وهم الذين يتفاعلون مع المجتمع الذكوري بشكل مباشر ومتواصل. أما أنا، فقد كان عليّ أن أفصل ذاتي عن ذات الكاتبة، وعندما تحترق الكلمات على سطوري، كان لزاماً أن أخفي آثار الحريق على أطراف أصابعي. وهكذا ضمنت لنفسي الاستمرار في الكتابة، دونما الحاجة إلى اسم مستعار، وكثيراً ما سألت نفسي: هل نبالغ في تقدير رفض مجتمعاتنا الشرقية والخليجية لصوت المرأة وكتابتها أم أنني فقط ذات حظ كبير فجاءت كتاباتي برداً وسلاماً على القبيلة! ولم تُنصب لي المحاكم ولم تُخرجني من جناتها. فإذا كان يوم دُعيت فيه لشهادة - كهذه الشهادة - في جامعة قطر، فتحدثت كما أتحدث اليوم، ثم فُتح باب النقاش للطالبات، وكن قد قرأن مجموعاتي القصصية بأمر مباشر من أستاذ المادة، إحداهن فضلت أن تكتب السؤال على ورقة صغيرة - ولا تنطق به - أرسلت الورقة عبر أخرى وأخرى حتى وصلت أمامي، في الورقة سؤال يقول: كيف جرؤت على الاعتراف بأنك قد فكرت في رجلٍ ليس من ذوي القربي؟ كيف يزورك رجل في الخيال؟ ثم تكتُبين ذلك وتنشُرينه؟ وددت في حينها لو أنظر إلى وجه الفتاة صاحبة السؤال، وددت أن اقرأ، هل هو الغضب أم الدهشة المحرك وراء السؤال، ولكن أكثر من نصف من في قاعة الدرس كُن من المنقبات، فلم أتبين الدافع لهذا السؤال البريء والقاسي في الوقت ذاته. لكني أجبت وأنا أوجه نظري نحو كل واحدة من الحاضرات نعم يا فتاتي هذا صحيح، ربما لأنني لم أذهب لأبعد من ذلك وكان قد مضى عليّ زمن نشر تلك القصة عشر سنوات. وكُنت قد أصبت بالطمأنينة على أن من يقرأ الآن يعلم أن هذه السطور ليست الكاتبة ذاتها بالضرورة، ولكن بعد هذه الحادثة الصغيرة، علمت أن اللجوء إلى الاسم المستعار، أو الابتعاد كلياً عن شخص الكاتبة، قد يكون حلاً أسلم ولو إلى حين، ولكنني في الوقت نفسه أيقنت بأن قراري الأول بالإعلان عن هويتي، هو قرار صائب، وربما كان القرار الأصوب، فها هي فتاة عشرينية تناوش الكتابة وتبدأ في طرح الأسئلة، أو ليس هذا ما نبغيه من فعل الكتابة؟ * قاصة قطرية... والمقال مقتطفات من"شهادة"قرأتها في مهرجان صنعاء الرابع للقصة والرواية.