كثيراً ما تقال كلمة"الشعوب المحبة للسلام"في مناشدة الشعب لتحقيق السلام، للدلالة على أن هذا الشعب هو شعب محب للسلام. وفي كل شعب من شعوب العالم جمعيات وأحزاب وتنظيمات كلها تنادي للسلام، ومن أهدافها الأساسية في دساتيرها الدعوة لتحقيق السلام، وتقيم الاجتماعات وتنظم المظاهرات والتجمعات والاعتصامات المختلفة للمناداة بالسلام، ومفهوم هذا السلام المنادى به هو عكس الحرب وويلاته، وضد القتل وترويع النساء والأطفال والآمنين، وكنت من هؤلاء الذين يؤمنون بالمقولة بأن كل الشعوب"محبة للسلام"ومن المتحمسين لها، على اعتبار أن شعوب العالم هم أسرة واحدة، فما يؤلم شعباً ما يحس به شعب آخر، أو شعوب أخرى لكن هذا القول سقط، أجل سقط ولم يبق له في ذهني حيز من التفكير أو الاعتقاد به، ولا شك انه سقط أيضاً من تفكير الناس الآخرين، ذلك أن الشواهد والأحداث الأخيرة جعلت المرء ينظر في إعادة حساباته القديمة! فالمشهد الأول الذي كان السبب في هذا السقوط هو إعادة انتخاب الرئيس الأميركي جورج بوش الثاني رئيساً للولايات المتحدة، والمشهد الثاني كان إعادة انتخاب توني بلير رئيساً للوزراء في بريطانيا، على رغم أنهما أدينا من زعماء وشعوب دول العالم، ومن كل الهيئات والمنظمات العالمية، ومن المحللين السياسيين والصحافيين بسبب حربهما القذرة على العراق واحتلاله، وهذه الإدانة تمثلت في أمرين: الأمر الأول: تلك المظاهرات العارمة التي اجتاحت العالم ضد هذه الحرب من مختلف بلاد العالم، إذ إن هذه المظاهرات تمثل إرادة شعوب بلادهم، وأن هذه الشعوب التي أفرزت هذه المظاهرات إنما هي شعوب"محبة للسلام"... وكنت أتصور أن ذلك سيكون رادعاً لنوايا بوش وبلير ومساعديهما من المحافظين الجدد، وكنت أسخر من تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية حالياً عندما كانت مستشارة الرئيس بوش للأمن القومي، عندما قالت إن الحرب ستشن على العراق على رغم تلك المظاهرات التي نشاهدها هنا وهناك، إذ لا تساوي شيئاً لدى تصميم الرئيس بوش على الحرب ضد العراق وهكذا كان! الأمر الثاني: فقد صدر من كل المنظمات السياسية والإقليمية والدولية وعلى رأسها جامعة الدول العربية وهيئة الأممالمتحدة قرارات بعدم الموافقة على تلك الحرب، وفشلت الولاياتالمتحدة في الحصول على قرار من مجلس الأمن الدولي لتلبية طلبها بإقرار شرعية شن الحرب على العراق، إذ قادت المعارضة في المجلس فرنسا لاستخدامها حق النقض بدعم من دول أخرى، هي روسيا وألمانيا وبلجيكا... وعلى رغم ذلك لم تمتثل الولاياتالمتحدة لهذا الرفض الدولي للحرب على العراق، وسارت في الحرب، وبذلك خرقت الولاياتالمتحدة النظام الدولي وداست عليه، على رغم تأكيد الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في تصريحاته أن الحرب على العراق حرب غير شرعية وغير مبررة. من دون شك موقفا بوش وبلير يعنيان أن ليس كل الشعوب ليست محبة للسلام، فشعبا الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا لم ينضما إلى الشعوب المحبة للسلام، فعلى رغم ما ولدته الحرب على العراق من ويلات ومجازر ومخالفات للقانون الدولي من تعذيب للسجناء وانتهاك لحقوق الإنسان واعتقالات وتدمير وقتل وضرب بغداد بالقنابل المحرمة دولياً، وعلى رغم الأكاذيب بوجود أسلحة دمار شامل في العراق وسقوط صدقيتهما أمام شعبيهما، فقد تمت إعادة انتخابهما ليواصلا القتل والتدمير ضد شعب آمن وأعزل من السلاح للدفاع عن نفسه وسيادته، فالشعبان الأميركي والبريطاني على أساس تأييدهما لزعيميهما لا يحبان السلام ولا يهمهما ماذا يجري في البلاد الأخرى، بقدر ما تهمهما مصلحة بلديهما، ولا أدري ما هي مصلحتهما في قتل العراقيين كباراً وصغار، وتدمير البنية التحتية لهذا البلد العربي؟ في ضوء ما تقدم لا نستطيع أن نعمم فكرة أن كل الشعوب محبة للسلام، ولكن الدنيا لا تزال بخير، إذ توجد هناك شعوب محبة للسلام بالفعل تعاقب قادتها عندما يجنحون ضد السلام الدولي، وأبرز مثال لذلك سقوط حكومة إيثنار في إسبانيا التي شاركت في الحرب على العراق وانتخاب الشعب الإسباني حكومة أخرى رافضة للحرب سحبت قواتها من العراق، ومثال آخر هو سقوط رئيس وزراء إيطاليا برلسكوني، الذي وعد شعبه بالانسحاب من العراق، وهذا يدل على أن هناك شعوب تحب السلام بالفعل... أيضاً الشعب الأسترالي الذي أسقط رئيس الوزراء جون هوارد الذي لم يستجيب للشعب الأسترالي بسحب قواته من العراق، وصوت إلى جانب زعيم حزب العمال كيفن رود الذي هدد بسحب قواته من العراق، وبذلك صار شعب استراليا شعباً محباً للسلام. وفي وارسو أعلن رئيس الوزراء الجديد المنتخب دونالاد تاسك، في حملته الانتخابية أنه سيسحب القوات البولندية من العراق في حال فوزه في الانتخابات، واستجاب الشعب وفاز في الانتخابات وسقط شريك من شنوا الحرب العدوانية على العراق، وأعلن الرئيس الفائز في البرلمان سحب بولندا قواتها من العراق، وبذلك صار شعب بولندا من الشعوب المحبة للسلام. أخذت الشعوب المحبة للسلام تنسلخ من الائتلاف الدولي الذي أيد الحرب على العراق. لدى بعض الشعوب مصالحها الداخلية الوطنية أهم بكثير من تحقيق سلام لشعوب أخرى، ولا يهمهما الإبادة البشرية من قتل وتدمير ومثلها الأعلى ليس هناك صداقة دائمة وإنما هناك مصالح دائمة... إن هذا الشعار جائز بالمفاضلة بين مصالح وأخرى لكن ليس من هذه المصالح إبادة الشعوب، إذ ليس لشعب مصلحة في إبادة شعب آخر. الدكتور أحمد عبدالرزاق السعيدان محامي ومستشار قانوني