مرت مدة زمنية كافية تسمح بحصر أرباح وخسائر الحرب ضد العراق. المنطق يقول إن الطرف الخاسر يكون، في الغالب، الطرف الأضعف الذي كان هدفاً لهذه الحرب التي دارت رحاها على أراضيه وتعرض ساكنوها لدرجة أو أخرى من العنف والقصف وتضررت أبنيته التحتية والفوقية على حد سواء. والمنطق يقول أيضاً أن المستفيد الأول من هذه الحرب هو الطرف الأقوى الذي خطط لها وأعلنها ونفذها وجنى ثمارها. ولكن في هذه الحرب تحديداً وبعد هذه الفترة الزمنية، القصيرة نسبياً، التي مرت على نشوبها يلعب المنطق دوراً ثانوياً في سجالات التقويم. في العراق لا يبدو الحساب بسيطاً كما تصور هؤلاء الذين خططوا للحرب، وهؤلاء الذين واجهوا الحرب أو تحملوا عواقبها وجنوا مكاسبها، وهؤلاء الذين تفرجوا أو راقبوا أو انتظروا النتائج ليتبدلوا وفقاً لها ويتسقوا معها. سقط حكم الرئيس صدام حسين. وكان هذا السقوط واحداً من أهداف الحرب. لم يكن الهدف الأوحد، ولعلي أعترف أنني لم أصدق يوماً خلال الحملة الإعلامية والسياسية التي سبقت الحرب أن إسقاط حكم الرئيس صدام حسين هدف أساسي من أهداف الحرب. كانت الأهداف المعلنة متعددة يتصدرها ثلاثة أهداف على الترتيب التالي. الهدف الأول إزالة أسلحة الدمار الشامل التي يحتفظ بها النظام العراقي، وإحباط برامجه وطموحاته النووية كافة، وتخليص شعبه وجيرانه والعالم بأسره - حسب الرأي الأميركي - من احتمالات استخدام هذه الأسلحة للاعتداء عليها. كان الهدف الثاني تدمير القدرة العراقية على إقامة تحالفات مع المنظمات الإرهابية بخاصة مع تنظيم "القاعدة"، وفضح أي علاقات سرية قائمة بين بغداد وتنظيم "القاعدة"، وإيقاف المعونات كافة التي يقدمها النظام العراقي "للإرهابيين" الذين يشنون هجمات "انتحارية" - أيضاً حسب الرأي الأميركي - ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. ثالثاً إسقاط النظام البعثي في بغداد وتقديم عناصره وقياداته للعدالة لمحاكمتهم على جرائم ارتكبوها في حق الإنسانية، بمعنى آخر، "تحرير" العراق من ديكتاتورية صدام حسين ونظامه الاستبدادي. تصدرت هذه الأهداف الثلاثة بصفة دائمة قوائم متغيرة الأهداف كان يعلنها ويعدل فيها بين الحين والآخر المسؤولون في حكومتي الرئيس جورج بوش في واشنطن ورئيس الوزراء توني بلير في لندن. وكان ينضم بالتأييد والمبالغة والإضافة لهذه القائمة رؤساء حكومات في أسبانيا واستراليا وفي غيرهما. لم يتحقق الهدف الأول من الحرب على العراق. والسبب بسيط للغاية. وهو أن هذا الهدف لم يكن حقيقياً في أي لحظة من لحظات الإعداد للحرب. كدنا نصبح على يقين من أن الدولتين اللتين خططتا وشنتا الحرب على العراق لم يكن في نيتهما القضاء على أسلحة الدمار الشامل لأن المسؤولين في الدولتين لم يكونوا واثقين من وجود أسلحة دمار شامل في العراق. وعندما نعود بالذاكرة إلى جلسات السجال العنيف التي دارت في مجلس الأمن، وكانت مذاعة على الهواء مباشرة من نيويورك، كنا نتعجب من هذا الإصرار من جانب الولاياتالمتحدة برئاسة الجنرال كولن باول ووفد المملكة المتحدة برئاسة وزير خارجيتها جاك سترو، على رفض تأكيدات السيد هانز بليكس من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل مستنداً، هو والسيد محمد البرادعي، إلى أسابيع متعددة من العمل الشاق من جانب فرق الأممالمتحدة والوكالة الدولية للطاقة النووية. تصورنا في مرحلة من المراحل أن هاتين الدولتين تمتلكان من الأدلة الاستخباراتيه نماذج بالغة السرية تبرر إصرارهما على وجود دمار شامل. ومرت شهور ثلاثة قضاها على الأرض العراقية في أنحائها كافة شمالاً وغرباً وجنوباً وشرقاً عشرات الألوف من صفوة الجنود الأميركيين والبريطانيين، ولم يعلن بعد أنهم وجدوا سلاحاً بطاقة تدميرية شاملة. وتفجرت في كلتا العاصمتين، واشنطنولندن، فضيحتان كشفتا عن المستوى الذي انحدرت إليه بعض أجهزة صنع القرار في الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة لتضع مبررات غير حقيقية مزيفة لشن الحرب على العراق. وهناك في كلتا الدولتين شكوك قوية تدفع إلى السطح بقضية عنوانها "خداع متعمد للرأي العام في الدولتين بل وفي العالم". وذهب المسؤولون في الدفاع عن أنفسهم وسياستهم إلى حد تشويه سمعة أجهزة الاستخبارات أو اتهام موظفين كبار بالمبالغة أو بعدم تقديم النصيحة الصادقة لصانع القرار. ولم يتحقق الهدف الثاني. ولسبب بسيط أيضاً، بساطة السبب الذي حال من دون تحقيق الهدف الأول. لم تكن هناك أدلة دامغة وبراهين قوية ملموسة تؤكد وجود علاقة قوية أو ضعيفة بين سلطات الحكم في بغداد وتنظيم "القاعدة". ولم تعثر قوات الاحتلال على معسكرات لتدريب الإرهابيين. وجدوا المعسكر المعروف لدى غالبية أجهزة الاستخبارات والإعلام العالمية وهو معسكر مجاهدي خلق ومعسكرات ثانوية لإيواء الشباب العربي الذي وفد إلى العراق للمشاركة في الدفاع عنه ضد الغزو المحتمل من الولاياتالمتحدة الأميركية. هنا أيضاً تعرضت صدقية المسؤولين عن صنع السياسة الخارجية في الولاياتالمتحدة وفي المملكة المتحدة على حد سواء لنكسة كبيرة ولكن أقل بالتأكيد من النكسة في الصدقيه التي نتجت عن مزاعم أسلحة الدمار الشامل. يبقى الهدف الثالث. وقد تحقق. سقط النظام العراقي. ولم يكن هذا السقوط مفاجأة للرأي العام العالمي أو الرأي العام العربي أو حتى الرأي العام العراقي. فالقوة الغازية قوة كاسحة جبارة تستخدم أحدث تكنولوجيات العصر واستطاعت بفضل قيادتها لحرب عالمية أشمل وأوسع ضد الإرهاب أن تجند السكوت من جانب أكثر من 50 دولة في العالم، بالإضافة إلى من جندته حليفاً نشيطاً معلناً أو غير معلن. وسقط النظام العراقي لأنه كان منبوذاً ومكروهاً من فئات الشعب كافة ولما كان إسقاط النظام العراقي هدفاً تابعاً لأهداف مزعومة معلنة وأهداف حقيقية غير معلنة، فإنه لم يفلح في كبت الانتقادات الموجهة إلى الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة وفي العالم بسبب ممارستهما الخداع والتزوير في المعلومات عن أسلحة الدار الشامل وعن علاقة العراق ب"القاعدة". بل إن هذا الهدف ذاته - أي إسقاط صدام - على قلة أهميته أو تراجع أسبقيته في ترتيب أهداف الحرب استمرت أهميته تتناقص بسبب ثلاث تطورات مهمة تتعلق به مباشرة أو بشكل غير مباشر. التطور الأول هو أن قوات التحالف لم تتمكن بعد مرور ثلاثة شهور على بدء الاحتلال من أن تكتشف مقر اختباء صدام حسين ولم تعلن حتى الآن معلومات مؤكدة عن وجوده حياً أو ميتاً. أي أن النظام سقط وما زال رئيسه حراً طليقاً يستطيع بغيابه - الحقيقي أو الخائلي - إثارة المشكلات لقوات التحالف. التطور الثاني أن قوات التحالف أقدمت على تصرفات وسلك بعض عناصرها سلوكيات تسببت في هياج قطاعات متعددة في الشعب العراقي. وقد بلغت هذه المضايقات والاعتقالات التي تحدث كل يوم وبدون تقديم تفسير مناسب لعدد كبير منها مستوى أدى إلى شيوع المقارنة بين استبداد الاحتلال واستبداد النظام الذي سقط. لذلك ينقسم العراقيون على الاعتراف بأن قوات الاحتلال قامت بتحرير الشعب العراقي من نظام مستبد وقمعي. وقد لاحظت أن الاعتراف بجميل القوات الأميركية والبريطانية في التحرير صار أقل تداولاً مما كان عليه في الأيام الأولى في الاحتلال، وإن كان هناك بعض التفاؤل على إثر تشكيل المجلس الانتقالي. التطور الثالث: هو أن الحرب انتهت من دون مقاومة تذكر أو على الأقل لم نسمع عنها. وبعد أسابيع قليلة بدأت مقاومة شعبية، أخذت في الغالب، طابعاً سلمياً ومدنياً، وفي أحيان أخرى سلكت في بعض مظاهرها سلوك العنف، وتسببت حتى الآن في سقوط ضحايا كثيرين من جنود قوات التحالف. هذه المقاومة المتصاعدة توحي في الداخل كما في الخارج بأن الحرب لم تنته على الرغم من تسرع الرئيس بوش في إعلان انتهاء العمليات القتالية في وقت مبكر بهدف الحصول على اعتراف من الأممالمتحدة بحقه المشروع في احتلال العراق والفوز بغنائم الحرب. انتصرت الولاياتالمتحدة، ولكن بشوائب غير قليلة. أول هذه الشوائب وأهمها أن الفرحة بالنصر لم تدم طويلاً. إذ لم يتوقف تدفق الجنود الأميركيين على العراق حتى فاق عددهم في مهمة حفظ السلام عددهم في مهمة غزو العراق واحتلاله. وبالتالي تفاقمت تكاليف الحرب على اقتصاد أميركي لم يتعاف. ثانياً: انخفضت في أميركا شعبية الرئيس بوش بنسبة الثلث عما كانت عليه بعد الحرب مباشرة. هذا الانخفاض في هذا الوقت بالتحديد له مغزى كبير. فكل الجهود في البيت الأبيض والإدارة الأميركية عموماً تركز على الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة ولا تريد ما يعكر صفو انتصار كان يبدو مضموناً. ثالثاً: تسببت الحرب وجدل ما بعد الحرب في شق صف الحلف الأطلسي بشكل لم يسبق له مثيل منذ إنشاء الحلف، بل أن الخلافات داخل الحلف تمس هذه المرة أسس النظام الدولي وجذوره. فالولاياتالمتحدة لا تخفي نيتها عدم السماح بقيام كيان سياسي في أوروبا يتسبب في ضرر للمصالح القومية الأميركية. رابعاً: تكررت مظاهر أو سلوكيات التمرد في السياسة الخارجية الروسية إزاء الولاياتالمتحدة أو على سياسات معينة تنتهجها، آخرها الخلاف الناشب حول وضع الديبلوماسيين الروس في بغداد. وعلى كل حال لن يكون هذا الخلاف آخر الخلافات. فقد صارت روسيا تأخذ مأخذ الجد التهديد الأميركي الموجه الى الاتحاد الأوروبي بأنها لن تسمح لكيان سياسي في أي مكان في العالم أن يصل إلى درجة عالية من القوة أو القدرة التنافسية. خامساً: لم يحظ الرئيس بوش خلال زيارته للقارة الإفريقية باستقبال مناسب يشبه في قليل أو بعيد الاستقبال الذي حظي به الرئيس كلينتون سنة 1998. وقد كتب محللون أميركيون وأوروبيون كثيراً حول هذا الموضوع، وأغلبهم يعتقد أن أحد أسباب هذا الاستقبال الفاتر لقائد النصر، هو الخلاف بين معظم الدول الإفريقية والولاياتالمتحدة حول الحرب في العراق. إن أفريقيا تعتبر الشرعية الدولية التي لم تستجب لها أميركا عندما قامت باحتلال العراق أهم درع لها، لأنها العنصر الوحيد المتبقي للمحافظة على استقرار الحدود والسياسة وحماية مظاهر الاستقلال في إفريقيا. سادساً : لا يخفى على أحد في الشرق أو الغرب المغزى الذي تعبر عنه صور القوات الأميركية الموجودة في العراق، وهي تنتقل من مكان إلى مكان شاهرة اعتى الأسلحة في وجوه أفراد مدنيين وغير مسلحين، أو صور حاملات جنود تحترق وتسيل على جنباتها دماء. المغزى الأهم لهذا المنظر أو ذاك هو عدم تناسب القوة الأميركية الهائلة التي يتحدث عنها الخطاب السياسي الأميركي، وبالذات الخطاب الذي يلقيه الرئيس بوش وأعوانه عن أميركا الدولة الأعظم والأقوى والتي تستطيع أن تفرض هيمنتها على العالم بأسره، وحقيقة أن جنودها يحاربون أطفالاً أو رجالاً ونساءً في لباس مدني ويطاردونهم في أحياء متفرقة من بغداد أو في مدن فرعية في العراق. يلفت النظر أخيراًً انكسار الغطرسة في تصريحات بعض المسؤولين الأميركيين بخاصة تصريحات وزير الدفاع الأميركي، مما يوحي بأن النصر غير كامل وأن هناك خشية لدى القادة الأميركيين من أن يؤدي هذا النصر الناقص إلى مزيد من الحرج للإدارة الأميركية والغضب عليها في الشهور المقبلة. تحقق النصر ... ولكنه النصر المر. * كاتب مصري.