ما أحدثه المقال السابق"مقالات مستقلة"من صدى كبير لم أكن أتوقعه من القراء الأعزاء، خصوصاً أن المقال لم يكن سوى قصاصات صغيرة كتبتها أثناء الإجازة، علّها تكون مقالات متكاملة في الأسابيع المقبلة، هذا الصدى الرائع جعلني أعيد النظر في بعض الثوابت - في نظري طبعاً - والمسلمات التي كونتها من خلال تجربتي الصحافية البسيطة، وهي كثيرة - أي تلك الثوابت - ولكني سأكتفي بذكر ثلاثة منها لاعتقادي بأنها الأبرز. أول تلك الثوابت، هو الاعتقاد السائد لدى كتّاب الصحف، والكتّاب عموماً، بأن نسبة القراء في المجتمعات العربية متدنية، خصوصاً في المساحات التي تُفرد للرأي أو الفكر أو الأدب، سواء على صفحات الصحف أو في بطون الكتب، ولو قدر لتلك النسبة أن تزداد قليلاً فإنها حتماً ستكون بسبب قراء صفحات الرياضة والشعر الشعبي والفن والطبخ، ويضاف لها هذه الأيام صفحات الأسهم والاكتتابات. أما الثابت الثاني، فهو إنصاف معظم القراء تقريباً عن قراءة الصحف اليوميةً، ما يتيح الفرصة لمعشر الكتاب للخوض في كل العلوم والفنون والأدب، وغيرها، كيف لا وهم - أي الكتاب - يكتبون لمجتمعات قلما تقرأ... هكذا يعتقد معظم الكتّاب الذين يتعاطون فعل الكتابة اليومي أو الأسبوعي، وبناء على ذلك الاعتقاد يمارس بعضهم حالة من الفوقية والنرجسية والأستاذية على أولئك القراء المساكين المهمومين بأزمات حياتهم. الثابت الثالث، هو الهالة أو الحال - لا فرق - الأسطورية التي أصبحت ملاصقة لكل من يتعاطى الكتابة والإبداع، فهم من يحملون - هكذا يزعمون - رسالة التنوير والارتقاء بالإنسان إلى سلم الكمالات البشرية، وأنهم وحدهم يستطيعون ذلك، أما الآخرون فقدرهم الاستماع والانصياع والقراءة المجردة - إذا كان لابد من ذلك - من أي فكر أو تطلع. تلك الثوابت والمسلمات وغيرها الكثير لابد لها من مراجعة وإعادة نظر من الكتّاب والمثقفين، فلا يُعقل أن من يُنادي صباح مساء بالحرية والعدل والمساواة والديموقراطية، ويزعم بأنه مرآة المجتمع والضمير الحي والنبض الإنساني، وغيرها من المصطلحات التي أشبعت كتابةً وتنظيراً حتى صدقها الجميع، من غير المعقول أن أصحابها - أي الكتاب - ينظرون هكذا لسبب وجودهم - أي القراء - وكل ما يتمتعون به من شهرة وسلطة ونفوذ. الردود والتعليقات الكثيرة التي لم يعتد عليها بريدي الالكتروني أعادت لي بعض توازني، وأكدت لي بما لا يدعو للشك بأنني أكتب لقراء غاية في الذكاء والمعرفة والنقد، قراء يفهمون تماماً ما يقرؤون، ومهما حاولت - أنا أو غيري - خداعهم أو تضليلهم فإنهم قادرون على كشف ذلك بكل سهولة، ولولا مراعاة الخصوصية والسرية للكثير من القراء الأعزاء، ولعدم المعرفة الأكيدة بمدى قبولهم بنشر رسائلهم وردودهم وتعليقاتهم، بسبب ذلك يُحرم المجتمع من حال حراك اجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي وديني واعٍ يمارسه قراء لا يقلون - إن لم يكونوا أفضل بكثير - عن الكتّاب الذين لا تفارق صورهم القديمة وكتاباتهم"المكررة صفحات الصحف، وكأنهم أصبحوا كالقدر المحتوم الذي لا يمكن تغييره أو الفرار منه! كم أتمنى من القراء الأعزاء الذين يملكون قلماً صادقاً وحساً وطنياً مخلصاً بألا يبخلوا بردودهم وتعليقاتهم وانتقاداتهم، كما أهمس في أذن الكتّاب الغيورين والمخلصين لوطنهم ومجتمعهم بأن يتعاطوا مع القراء بمحبة واحترام وصدق، وإذا تحقق ذلك - أو بعضه - التكامل بين الكاتب والقارئ، عندها فقط ستتحقق الأهداف النبيلة التي ينبغي أن تكون عليها رسالة الصحف السامية، لا أن تظل حبيسة جملة تلامس - للأسف الشديد - الواقع والحقيقة: كلام جرايد. [email protected]