من شبه المتفق عليه أنّ أيَّ مؤلّف من المؤلفات التي تتعدد فيه الموضوعات، وتتفاوت تفاوتًا متباينًا يصعّب من مهمة تناوله، والبحث في ثناياها عن خيط يربط بينها في صياغ التناول الإجمالي له، غير أنه في المقابل يمنح قارئه فرصة الوقوف على طرائق مؤلّفه في التناول، وطريقة تفكيره وأسلوبه الذي يتبعه في كتابه. فلكل كاتب، وصاحب قلم لغته الخاصة التي تظهر جليّة وواضحة في ثنايا سطوره، على اختلاف الموضوعات التي يتناولها ويناقشها، فمهما تباعدت هذه الموضوعات وبدت متشظية على عناوين عديدة إلاّ أن «أسلوب» الكاتب، ونكهته الخاصة تطل ما بين السطور، بحيث يستطيع القارئ الحصيف أن يهتدي إليه، وينسب المكتوب إليه بدقيق الإشارة، دون أن يرجع إلى اسم الكاتب، آخذين في الاعتبار جودة الكتابة، وحصافة القارئ ونباهته. وعلى هذا فمن الراجح أن يصل قارئ معالي الأستاذ إياد أمين مدني إلى كتابته من واقع أسلوبه الذي عُرف به في مقالاته الكثيرة التي أسهم بها في العديد من الصحف، وطالعه القرّاء في أزمان متفاوتة، آثر مدني أن يقرّب بينها، ويسكنها جوف كتابه الصادر عن دار «فكرة للاستشارات الإعلامية والتسويقية». فطي هذا الكتاب أودع «مدني» جملة من مقالات سبق لها أن نشرها في الصحف السيارة، غير أنه عمد إلى إسقاط الترتيب الزمني والاعتماد على وحدة الموضوع لتتناسب وتقديمها في كتاب. في «كلمة» تصدرت الكتاب، يستبق «إياد» قراءة ما يمكن أن يلوح في الأفق من سؤال حرج، ربما يصدر عن قارئ مستفسرًا عن الجدوى من نشر ممّا سبق أن نُشر، فب «كلمة استباقية» يرتّب «مدني» ويهيئ لكتابه موضعًا في مقام القبول، شرحًا لدوافعه من إعادة نشر مقالاته، وأوراقه القديمة، حيث يقول في «كلمة»: لماذا يُعيد الكاتب نشر مقالات وأوراق كتبها قبل سنوات طويلة مضت؟ هذا السؤال المعلّق في فضاء الاستفسار لا يطول مكوثه في مقام التعليق كثيرًا في على بعد سطر من مستوى نظر القارئ ينتظره الإجابة مقروءة في قول «مدني»: سؤال تكمن إجابته في اعتداد كل كاتب بذاته، وغروره بأن فيما يكتبه قيمة باقية.. وهذه الحالة ليست استثناء! هذا السطر سيقود «المتعجّلين» -إن وقفوا عليه- إلى الظن ب«غرور» مدني، الراسخ والثابت في قوله؛ غير أن للسطر استدراكًا يقرأه مَن يتابع «كلمة» المؤلّف، وهو يضيف: لكن، وأيضًا قد تكون هناك فائدة بالفعل تتعدّى «أنا» الكاتب الممتدة. ما ينشر خلال فترة زمنية يعبّر عن ما اتّسمت به من شؤون وشجون، وبرق فيها من أحلام، وترسّخ خلالها كواقع، وارتفع أثناءها من سجال؛ وفي ذلك معين للباحث والمؤرخ الاجتماعي المعني بها..». هكذا يترك «إياد» الباب مفتوحًا، أمّا مَن يريد لاختيار موقعه من الخيارين اللذين وضعهما أمام القارئ، فهي إعادة إمّا ل «غرور» أو «رجاء فائدة»، متجاوزة ل«الأنا»، و«الزمن» نافذة إلى الواقع المُعاش برؤية ثاقبة. ولا سبيل إلى التحقق من الأمرين إلاَّ بالمرور وئيدًا في عالم الكتاب، وما حواه من آراء، مستصحبًا في ذلك إشارة المؤلف في ال«كلمة» نفسها وهو يقول: ... والمقالات والأوراق التي يضمها هذا الكتاب تتوخّى الوحدة الموضوعية في تسلسلها المقصود، ولم تتقيد بتواريخ النشر في ذلك. وقد جرى اختصار ما يقتضيه الحال من إشارات أو فقرات ذات صبغة وقتية زائلة، ودمج المقالات ذات المواضيع المتشابهة في سياق واحد، وإضافة بعض الهوامش للمزيد من الإيضاح..». وفي ضوء هذا الإيضاح المشير إلى إسقاط عامل الزمن، والبحث عن وحدة الموضوع، والتخلّص من المظاهر الآنية الوقتية في المقالات مع دمجها، يمكن القول بأن الكتاب يمثّل «إعادة إنتاج» لمقالات سابقة بما يتوافق والظرف الآني، وهو أمر يُحمد من جانب تقدير الكاتب لما يصلح أن يكون مضمنًا في كتاب، غير أنه في الوجه الآخر ربما يشير إلى تغيير في «وثائق» محفوظة في أضابير الذاكرة وسجلات التدوين، بما يحرج مَن يتابعها في مظانها الأولى، والاستناد إليها دون استصحاب وردوها مرة أخرى من قِبل كتّابها في «مقام» آخر بوجه يحمل ولو قدرًا ضئيلاً من التغيير. ومهما يكن الموقف من هذا التغيير، أو التعديل، أو الحذف إلاَّ أن الثابت أن مجرد التفكير في إعادة القراءة والبحث عن رابط يجسّر المسافة بين ما كُتب قديمًا، وواقع الحال الماثل يؤكد بُعد نظر المؤلف، وقدرته على حمل أفكاره على جناح ومركب «التطوير» مشاركة، وإسهامًا في إضاءة الواقع بالرؤى المستنيرة.. وبحثًا عن «وحدة الموضوع» التي أشار إليها المؤلف في صدر كتابه، واتّساقًا مع رؤيته حول هذه «الوحدة» فإنه يعمد إلى تقسيم كتابه إلى عدة أقسام، وجوفها مجموعة من الفصول، مستهلاً بالقسم ذي الثلاثة فصول، ابتدرها بالفصل الأول تحت عنوان «مَن نحن..؟» وطي هذا العنوان سبعة موضوعات اهتمت بالبحث عن إشكالية سؤال الهوية والمظاهر الدالة عليها، وما يعتري المجتمع من مظاهر التغريب التي تنطمس في بعض وجوهها ملامح هذه «الهوية»، بما يبدو وكأنه «ذوبان» في زمن العولمة الكاسح. فأول المقالات «سن زرافة» يقلّب «مدني» على لسان «شاهدة عصر» كبيرة في السن ما كان عليه المجتمع قبل قيام الدولة السعودية، وأساليب التعامل مع «الرقيق»، و«الجواري» كاشفًا ما حل بالجارية «زرافة» في سياق سرد هو أقرب للقصة القصيرة منه إلى المقال. لينتقل في المقال الثاني إلى «خيمة مايكل جاكسون» مستخدمًا إيّاها ترميزًا لحال الشباب العربي قديمًا، ومدى تفاعله مع محيطه العالمي، وتفاعله مع المتغيرات من حوله. كذلك شمل هذا الفصل «اعترافات كاتب» ومناقشة ل«مفهوم القبلية» مقررًا أنها جزء أصيل من تراث المملكة العربية السعودية في سياق قوله: «القبلية إذًا جزء من تراث هذا البلد، والعصبية للقبيلة من خصائصه الاجتماعية، وإن كان التناحر الحربي بين القبائل قد اختفى منذ تأسيس المملكة كوحدة سياسية واحدة، فهل ضعف الانتماء القبلي؟ وهل اضمحلت عصبية القبيلة كدافع اجتماعي محرك، ونحن في معترك ترسية مفاهيم الوطن والوطنية في أطرها الإسلامية؟ هل يقف مفهوم القبلية حجر عثرة أمامنا؟ هذه الأسئلة يحدد الكاتب في مقاله أبعادها، والإجابة عليها، بما يستوجب القارئ أن يعود إليها في كتاب إياد. أمّا رابع الموضوعات في الفصل الأول من القسم الأول فجاء تحت عنوان «مجتمع أرخبيلي..!»، ماضيًا إلى البحث في «سؤال الهوية»، وفيه يستعرض آراء الكتّاب والأدباء الروّاد في الإجابة عن سؤال الهوية من خلال منتجهم الأدبي وآرائهم الأدبية حوله. مختتمًا هذا الفصل بمقال حمل سؤالاً مفاده: «هل التنمية هوية؟» متناولاً فيه تأثير التنمية التي مرت بها المملكة العربية السعودية في مراحلها المختلفة على مجتمعها خاصة، والعالم العربي والإسلام عامة، والمتغيرات الاجتماعية التي صحبت هذه التنمية الواسعة إيجابًا وسلبًا. الفصل الثاني من القسم الأول جاء تحت عنوان «المحددات» مشتملاً على أربعة مقالات «أصحاب الفضيلة»، «الاجتهاد الأصيل الفاعل»، «ما معنى الاتباع؟»، و«الأصالة والمعاصرة». والمقالات الأربعة في مجملها تتناول الدِّين بوصفه المحدد الأساسي لمظهر المجتمع السعودي، ليمضي النقاش من ثم إلى تحديد معالم هذا الدِّين من حيث الاتباع المستنير المستصحب لمتغيرات الواقع والعارف بثوابته المرعية، دون استغلاق يفضي إلى انقطاع أو انفتاح ينتهي إلى ضياع الثوابت، مخصصًا الخطاب إلى «أصحاب الفضيلة» بقوله: «أصحاب الفضيلة علماء الإسلام ليسوا مثل القساوسة المسيحيين، يحصرون همهم في أعمال كنيسة تضع خطًّا فاصلاً بين رجل الدِّين ورجل الحياة، وتجعل من الرهبنة مهنة للكسب والارتزاق، وليسوا «مونكات» البوذيين والهندوكيين الذين يحيطون معتقداتهم بسياج من الغموض والأسطورية، ويعيشون على هبات وصدقات أتباعهم داخل معابد تحول أسوارها العالية ومواقعها النائية بين المعتقد وأصحابه. ويشير أيضًا في مقام الحديث عن الاجتهاد الأصيل الفاعل إلى أن «.. العقل الإنساني لا يقف قط، والمعرفة تسير دائمًا إلى الأمام، وكل تغير كبير في رأي الإنسان عن العالم يستلزم ترجمة جديدة، وإعادة تقدير للحقائق الأساسية.. لكن هذه التفسيرات يجب أن تفرض على العقيدة من الخارج، بل يجب أن تنمو داخل نظام الاعتقاد ذاته، اللهم إلاّ إذا كنا نريد لأنفسنا أن نمشي على «عكازين» من الشرق والغرب، واحد من اليمين، وآخر من اليسار. وقريبًا من هذا الفصل «المحددات» يقبع فصل «العرب والمسلمون» الذي يمضي فيه المؤلف بذات رؤيته وثاقب نظره إلى مناقشة حال العرب والمسلمين في العالم اليوم، ومدى إخفاقهم وإسهامهم فيما يدور، مستعرضًا في ذلك موضوع «الانبهار» ومنتهيًا بالحديث عن «تركيا»، وبينهما ستة موضوعات أخرى، وبه يختتم القسم الأول. أمّا القسم الثاني من الكتاب فيتألف من أربعة فصول، ففي الفصل الأول «مع النفط والفكر» يناقش المؤلف النفط والفكر في منطقة الخليج العربي مع عبدالعزيز جلال، ومحمود محمد سفر، عبدالله الحامد، أحمد عباس صالح، عبدالكريم العودة، أنور عبدالمجيد الجبرتي. وفي الفصل الثاني يناقش «النظرية والتطبيق» في الفكر العربي من خلال رؤى محمود أمين عالم، وشوقي جلال، أمّا ثالث الفصل فخصصه للحديث عن «مستقبل الثقافة العربية»، ورابع الفصول ل«مفهوم الهجرة» مع صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن، وعزيز ضياء، ومحمد حسين زيدان، وبدر كريم. صفوة القول إن أفكار معالي الأستاذ إياد أمين مدني في كثير من مناحي الحياة تبدو واضحة جليّة، بلغة تتفاوت بين السرد والتحليل، مقدمًا هذا الكتاب الذي يجدر بكل مثقف أن يقف على ما فيه.