للقرآن في قلوب المؤمنين مهابةٌ وقداسة، وتصديق وإيمان بعصمته، ويقينٌ بأنه محفوظ بحفظ الله من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. وللمصحف الذي حوى بين دفتيه آيات الذكر الحكيم حرمةٌ لا يجهلها مسلم، ولو أن مسلماً تعمد أن يدنسه بأية صورة من صور التدنيس لكان مرتداً بإجماع الأمة قاطبة. وهذه الحرمة للمصحف مما اطبقت قلوب المسلمين على رعايتها وتعظيمها، فحرمة المُصحفِ من حرمة كلام الله Y، غير أن لامتهان القرآن في حياتنا صوراً لا يُحسها ولا تثور لها غيرتُه إلا من فقِهَ وظيفة القرآن في الحياة، ولذا فإن تبصير الناس بوظيفة القرآن هو الذي يخط لهم الحدَّ الفاصل بين الحق والباطل... بين صور توقير القرآن وتعظيمه وصور امتهانه وابتذاله. وكم اُمتُهن القرآن وابتذل واتُّخِذتْ آياته هزواً فلم يستثر ذلك حفيظةَ كثيرين، لأنه أُلبس عليه لبوس التعظيم، فوقع الامتهان في صورة معنوية لا تُنكرها العين. ولذا يجب أن يرد الناس إلى حقيقة التوقير الذي أمرنا الله به، وهو التوقير الذي تتحقق به وظيفة القرآن في الحياة. لقد نزل القرآن ليكون دستوراً للحياة يهيمن على حياة المجتمع والأفراد، من خلال قواعد كلية تضبط شؤون حياتهم، ووصايا تنتظم أخلاقَهم وعلاقاتهم. إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. لقد أنزل القرآن ليتدبّر الناس آياتِه ويتّعظوا بعظاته، وأنزل ليُقرأَ على الأحياء لا ليقرأ على الأموات في المآتم، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ. وما أمر بترتيله وتحسينِ الصوت بقراءته إلا ليطوع القلوب للتدبر والاتعاظ. مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى. ونزل شفاءً لما في الصدور، ورقيةً يسترقى بقراءته من الأمراض الحسية والمعنوية، وحرزاً من السحرة والشياطين. يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ. هذه هي وظيفة القرآن، وما وراء ذلك فهو إما تكلفات ليس فيها معنى التوقير والتعظيم الذي أمر الله به، وإما ابتذال وامتهانٌ أُلبسَ لبوسَ التوقير والتعظيم. من صور امتهان القرآن: أن يُستفتح به في محافل يحفل الناس فيها بالمعاصي، أو في مؤتمراتٍ تقنن فيه تشريعات تخالف شرع الله صُراحاً، فيستفتحون الشر بالذي هو خير، ويجعلون القرآن مجرد ترانيم يتزيّن بها في المحافل والمجامع. ومن صور الامتهان واتخاذ آيات الله هزواً في استفتاح الاحتفالات بالقرآن: أن تنتزع الآيات لتوضع في غير مواضعها ولتساق لتعظيم أصحاب الجاه والسلطان، كأن يستفتح القارئ حفلة افتتاح مشروعٍ ما بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا! والقارئ لم يحرف الآية، ولم ينتقص منها حرفاً ولم يزد فيها، ولكن استفتاحه بهذه الآية من دون غيرها من آي القرآن يحمل ابتذالاً وامتهاناً للقرآن يستحق أن يُعزّر عليه. ومن المغالطة أن يقال: إن في هذا الرأي تحميلاً لفعل القارئ ما لا يحتمله، فما رأي من يغالط هذه المغالطة لو أن القارئ اختار أن يستفتح محفِلاً يحضره ملك من الملوك بقوله تعالى: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، أو كانت الحفلة على شرف ضريرٍ فاختار القارئ أن يقرأ قوله تعالى: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً، أليس بهذا الاختيار يستحق التعزير في نظر من حضر؟! مع أنه لم يقرأ إلا ما هو في كتاب الله. ومن صور امتهان القرآن أن تُزين الجدرانُ بآيات مزخرفة في مكان يعصى الله فيه، يأتيها مرتكبوها وآيات القرآن معلقة فوق رؤوسهم. ويتحجج من يفعل ذلك بأمور: منها أن المقصود بتعليق الآيات إعانة الحاضرين على ذكر الله وقراءة الأوراد من الآيات، وهذا حسن لولا أنه يعرِّض آيات الله للامتهان. وقد يتحججون بأن الآيات التي يعلقونها هي من آيات الحرز، كآية الكرسي أو المعوذتين، وجواب هذا: أن تعليق الآيات في الجدران أو وضع المصحف في السيارة وما شابه ذلك لا يُحرز، بل الذي يحرز - بإذن الله - هو قراءتها، والمصحف نفسه ليس بحرز ولا برقية، وإنما الحرز والرقية بقراءة ما فيه من الآيات. وأشد امتهاناً للآيات من تعليقها في الجدران أن يزخرف بها ما يُبتذل من الأواني والتحف والفرش، فقد توضع مع ما لا يليق، أو يوضع عليها ما هو كذلك، وقد صدرت فتاوى من رئاسة الإفتاء ومن الأزهر بالمنع من ذلك سداً للذريعة وصيانة للقرآن أن يمتهن. بيد أن من أعظم صور الامتهان للقرآن تحريفَ آياتِه عن مواضعها، ولا أعني تحريف مبناها، فهذا مما لا يجرؤ عليه مجترئ، وإنما أعني: تحريف المعنى، وتحريف المعنى ممارسة امتهانية على دركات متفاوتة، يفعلها - مع الأسف الشديد - بعضُ أهل السنة، يحرفون معاني الآيات لتسويغ ما لا يسوغ، ولتشريع ما لا يحل. كاتب، وأستاذ شريعة في جامعة"الإمام"