كنت أعتقد ان مجتمعاتنا العربية تعاني من ظاهرة ما في محيط معين في حين تختفي هذه الظاهرة في محيط آخر، فإذا بالأمر عام، والظاهرة واحدة والسلبيات ذاتها، والخسارة بالحجم نفسه. التسول عند إشارات المرور في شوارع المدن العربية، التي زرت الكثير منها، كان وما زال يعني لي شيئاً واحداً، وهو قصور الأنظمة العربية عن توفير ابسط مقومات العيش الكريم للشعوب التي تستجدي قوت يومها عند الاشارة الحمراء في صور ومظاهر خطيرة تمس الطفولة والشيخوخة والمرأة والمعوقين وغيرهم!! قد يعتقد البعض - كما كنت اعتقد - أن الأمر متعلق بقصور هيئات الرعاية الاجتماعية في وطننا العربي لا اكثر ولا اقل، أو أنه عيب نفسي في هؤلاء المتسولين... او... او... ولكني وللحقيقة، وبعد تمحيص وجدت ان هذه الظاهرة ليست وليدة ظروف اقتصادية معينة، أو نتيجة طارئ اجتماعي معين، أو إفراز للتغيرات الفوضوية العالمية، ولكنها بلا شك نتيجة حتمية لتراكمات تقود الى خسارة الكرامة الانسانية للنفس العربية، التي تنشغل بقوت اليوم قبل ان تنشغل بتنمية الغد، وتفكر في مستقبل العشاء قبل ان تفكر في مستقبل الابناء، وهكذا حتى الوصول الى مرحلة الخضوع التام لكل الظروف القاسية مع استلاب الكرامة الانسانية، ثم بعد ذلك يطالب مسؤولو النظام شعوبهم ان يكونوا شركاء في التنمية المستدامة!! التسول عند إشارات المرور ليس هو القضية العربية بل هو ظاهرة من ظواهر القضية وأدناه في سلم الخنوع، فالمواطن العربي الذي يترفع عن التسول عند إشارة المرور لا يجد بأساً في ان يتسول على باب المسؤولين والمتنفذين وذوي السلطة، والجميع هنا وهناك يتسولون لقمة العيش والرعاية الصحية وحق الاعتراف بهم، بل ويتسولون مواطنتهم على ابواب البطانات التي تشبه اشارات المرور، غير انها تختلف عنها، بأن ابواب البطانات دائماً ذات إشارة حمراء ولا تسمح بالاشارة الخضراء الا للمقربين والاتباع، وهكذا يصبح التسول ظاهرة، ولكن القضية الاساس هي ان تتسول حقك!! اعتقد ان الجميع يقر معي ان ادعاءات الفقر العربي ونقص الموارد اصبحت باطلة ومدحوضة امام الإيرادات والضرائب الخيالية واستحقاقات الدولة من المواطنين، وان الحقيقة الكامنة وراء ظاهرة الفقر العربي، في غياب العدالة وغياب التنمية الزراعية في الاراضي التي خلقت للزراعة، وغياب مقومات الدولة المستدامة. كما هي التنمية المستدامة، والمواطنة المستدامة، فبذور العدالة والشفافية وتكافؤ الفرص وحقوق الرعاية الشاملة متوافرة دائماً وجاهزة للزراعة! لنتفق ان ظاهرة الفقر العربي هي إفرازات سياسية، خلفتها مركبات التمكين من السلطة وإحكام قبضة النظام، وانها ظواهر في طريقها الى الازدياد وليس الى الانقراض، الا اذا تنبهت الانظمة العربية انها تتعامل مع مواطنين وليس متسولين!! وهذا هو مربط الفرس الذي تمكن منه النظام السعودي على مستوى القيادة الحكيمة مع تحفظي على مستوى اداء الهيئات التنفيذية! وختاماً سألني احد الاصدقاء: هل يمكن القضاء على ظاهرة التسول باقتلاع الإشارات الضوئية من الشوارع العربية؟ أجبته: يمكن القضاء عليها من دون اقتلاع الإشارات الضوئية! فسألني: وكيف ذلك؟ أجبت بحذر: باقتلاع الفساد!!.. ومن مأمنه يؤتى الحذر. محمد بن حمود الطريقي المشرف العام على مركز ابحاث الشرق الأوسط للتنمية الانسانية وحقوق الإنسان