أحدث ظهور جهاز الهاتف المحمول أو الجوال ثورة هائلة في حياة الناس، لم أكن أتوقعها، وأحسب أن مثلي كثيرين، أن يصبح الجوال جزءاً من حركة الحياة وتفاصيلها، وينفذ إلى عمق الثقافة، ويكاد يكتسح في طريقه وسيلة الاتصال التقليدية المعروفة بالهاتف الأرضي أو الثابت. الجوال غيّر خريطة الاتصال، محدثاً حراكاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ومنشئاً عادات وأنماطاً مبتكرة للتواصل والتفاعل الإنساني. ليس الجوال اتصالاًَ لفظياً فحسب، بل اتصال عبر الرسائل النصية القصيرة، ورسائل الوسائط بما في ذلك النصوص الطويلة والصور والرسوم، وتقانة البلوتوث، وغيرها... جهاز الجوال يوفر أيضاً كاميرا تلتقط صوراً عالية الجودة، ميسراً بشكل غير مسبوق فرص التصوير أينما حل صاحب الجوال ومتى شاء. حتى في الحرمين المكي والمدني والبقاع المقدسة الأخرى أصبح من المعتاد أن يقبل الطائفون والقائمون والركع السجود على التقاط الصور"التذكارية". كما يندر أن تجد جهاز جوال لا يحتوي على صور يحتفظ بها صاحبه لقريب أو عزيز كابنه أو ابنته. أصبحت ممارسة الاتصال المتنقل جزءاً من الثقافة الشعبية، وأصبح المرء يرى من حوله يستخدمون الجوال في البيوت والمجالس والمنتديات والأسواق والمنتجعات، بل حتى وهم يقودون السيارات، ما أدى إلى سن قوانين في بلدان شتى تعد ذلك السلوك مخالفة سير، حرصاً على السلامة العامة. كثير من الناس يلجؤون إلى الاتصال عبر الجوال حتى وهم في بيوتهم ولديهم وسيلة اتصال أرضية، والسبب: الجوال ظاهرة ثقافية، والثابت موضة قديمة. هل سألت نفسك كيف ستصبح حياتك بلا جوال؟ هل جربت أن تقضي يوماً واحداً حراً من"أسر"هذا الجهاز، بعيداً عن الملاحقات اللفظية وغير اللفظية من أصدقاء وغيرهم؟ ماذا سيكون شعورك لو عشت يوماً بلا مكالمات ولا رسائل نصية ولا ضيف يطرق بابك مستئذناً في إرسال بلوتوث؟ هل هو شعور بالحرية وراحة البال والخلوة بالذات والخروج من"القرية الكونية"و"مجتمع العولمة"، أم هو شعور باليتم والعزلة والانكسار وقلة الحيلة؟ ماذا سيكون موقفك لو أقدمت شركة الاتصالات مثلاً على فصل الإرسال عنك بسبب عدم تسديد الفاتورة؟ حتى لو أردت التخلص من"إدمان"الجوال، فلن تستطيع. ستلاحقك الأسئلة: ما الخطب؟ عسى ما شر؟ ستتعرض للنقد بسبب انفصالك عن العالم وتقوقعك على الذات. حتى لو قررت أن تستغني عن اتصال الآخرين بك، فستجد نفسك مضطراً للاتصال بهم. ليس ذلك فقط، إن لعنة الموضة والجديد المثير في أجهزة الجوال لن تتركك وحدك. بعد أشهر من اقتنائك جهاز جوال، سيحاصرك من حولك بالحديث عن ظهور"موديل"جديد، أو"جيل"مطور، أو إنتاج آخر من"سلسلة"ل"ماركة"مشهورة تحتوي على خصائص فريدة ومغرية وضرورية. إذن لا مفر.. وثورة الجوال أنجبت صناعة مستقلة ومدرة لأرباح كبيرة:"إكسسوارات"، وجوه بألوان متعددة، سماعات، برامج تحميل لنصوص دينية أو مقطوعات موسيقية أو نغمات عربية وغربية، واستبدال جهاز الجوال ودفع الفرق، وأشياء كثيرة لا تنتهي. وبمناسبة النغمات، فإنها فتحت هي الأخرى باباً للتنافس والتعبير عن الأذواق والميول. في المساجد تنتشر دعوات إلى إسكات هذه النغمات قبل الدخول في الصلاة، وتعلق على مدخل المسجد دعوات مثل:"اخشع في صلاتك، وأجل اتصالاتك". على رغم ذلك تنبعث النغمات أثناء الصلاة وتتكرر ما يثير التشويش والبلبلة والغضب أحياناً. أخبرني صديق أنه مرة صلى في جامع كبير بمدينة الرياض، فانطلق من إحدى جنباته أثناء قراءة الإمام في صلاة العشاء صوت أم كلثوم:"هل رأى الحب سكارى مثلنا"! ظهور الجوال في حياتنا غيّر حتى نمط اتصالنا ببعضنا البعض، في مطلع هذا الشهر الكريم مثلاً لم يتصل بي مهنئاً بقدومه إلا قلة بعدد أصابع اليد، أما المهنئون بالرسائل النصية فقد ضاق بهم رحب ذاكرة جوالي. والاتصال المتنقل كشف ويكشف عن عادات الناس وطبائعهم وأهوائهم الاتصالية، هناك من يحب الاتصال اللفظي، وهناك من يفضل غير اللفظي أو الرسائل. هناك من يطيل المكالمة، وهناك من يختصرها قدر الإمكان ويضيق ذرعاً بالإطالة، ربما يتصل بك شخص ويقطع الاتصال قبل أن تجيب، والسبب: دعوتك أنت لتحمل الكلفة والاتصال به. قد يكون لهذا المتصل حاجة عندك، ومع هذا فلا يجد غضاضة من تحميلك أيضاً عناء طرق بابه لمساعدته وتلبية حاجته. يحدث هذا كثيراً في بلدان وثقافات عدة، وإن كانت حتى الآن ممارسة غير ظاهرة في الثقافة السعودية. رسائل الجوال وفرت قناة اتصالية مهمة لتبادل المعلومات والحكم والطرائف وعبارات الغزل والأقوال المأثورة، وتحديد مواعيد اللقاء، كما خدمت الساعين إلى برامج ونشاطات ثقافية وسياسية مشتركة، وهو ما يلقي أضواءً متزايدة على دور إعلامي بديل للاتصال المتنقل، يضفي زخماً وقوة على ما يُعرف بوسائل الاتصال الشخصية الإلكترونية التي تفوق أحيانا في تأثيرها وسائل الاتصال الجماهيرية الصحافة، الإذاعة، التلفزيون، الإنترنت. هناك من الأزواج من يقرر أن ينهي علاقته الزوجية بكلمة أنت طالق يبعثها إلى جوال زوجته، ومن علماء الدين من أقر وقوع الطلاق بهذه الطريقة. الرسائل أصبحت وسيلة إعلانية سهلة لترويج السلع والأفكار، وكثير من الفضائيات خصصت أرقاماً، لتشجيع مشاهديها على إرسال الرسائل بكثافة على مدار الساعة. لكن الرسائل ليست سواسية، والناس يتفاوتون في الصياغة والاهتمام بالمضمون. الرسائل الجاهزة أو"المعلبة"لا تشعرك بالحميمية والقرب، والرسائل الموجهة إليك باسمك تضفي لمسة شخصية وإنسانية على الرسالة تجبرك على الانسجام معها والاستجابة لها. من الرسائل المعلبة من لا يكلف مرسلوها أنفسهم عناء تغيير جنس المخاطب فيها، فتصلك رسالة تخاطبك بغير جنسك، ما يدفعك إلى الإعراض عنها. قد تصلك رسالة من صديق ما، وتعجب من مضمونها الساذج أو غير اللائق، وهو ما يوضح دور الرسائل في كشف المستور من شخصيات الناس وطبائعهم وميولهم وأذواقهم. أعرف شخصاً تلقى عزاءً في وفاة أخيه عبر رسالة جوال يتيمة، فلم تقع منه موقعاً حسناً، وأكبر أن تختزل مصيبة الموت في رسالة قصيرة، وكان من حقه بالطبع أن يتجاهل الرد تماماً. هناك من المتصلين من يحب إرسال الرسائل غير عابئ بالتكاليف المادية، ومن الناس من مرد على اللامبالاة وعدم الرد. قد تتصل بصديق فيتجاهل اتصالك، وتعاود الاتصال به، فلا يلقي لك بالاً. اتصالك بصديق مرة أو مرتين أو إرسال أكثر من رسالة إليه من دون جواب ربما يدفعك إلى مراجعة علاقتك به. لقد سمى العرب السفر سفراً لأنه يسفر عن وجوه الرجال، ولو كان الجوال ظاهرة قديمة في الحياة العربية لجعلوه ضرباً من السفر الذي يبين المخبوء من أخلاق المسافرين والجوالين. استخدام الجوال أفرز ظاهرة التطنيش، القائمة أصلاً على المصلحة الذاتية الصرفة البعيدة عن حقيقة الصداقة وخصال المروءة. أخبرني أحد الأصدقاء أنه اتصل بصاحب له فتجاهله، وأرسل إليه مراراً فلم يرد عليه. قال: كانت لي حاجة عنده، وهو يعلم ذلك، لكن تطنيشي بهذا الشكل كان أقسى علي من عدم قضاء حاجتي، وعندئذ قررت أن أبعث إليه بكلمات قلت فيها:"لم تعتذر فأعذرك، ولم تقض حاجتي فأشكرك، وفي كلتا الحالين سأذكرك". لا ريب أن الجوال أعاد رسم المشهد الاجتماعي، مسهماً في بناء مجتمعات تدين له بالفضل، أو تشتكي تسلطه وهيمنته على إيقاع حياتها. لكن التداعيات التي أحدثتها ثورة الجوال ستكون مجالاً خصباً للدارسين والمهتمين لفترات زمنية مقبلة. * أكاديمي وصحافي سعودي