عذراً يا أقدس بقاع الأرض، يا محارة تصون لؤلؤة الكعبة الشريفة، يا حلماً نسج خيوط تقبيل ثراه كل مسلم ومسلمة في أنحاء المعمورة... عذراً يا حبيبة رسول الله... عذراً يا مكة، يا من تتناثر بيوتك الصغيرة على سفوح جبالك متلألئة تطرز ثوب الليل المخملي الأسود... ويا من تغدين في النهار قبلة تطبعها شفاه الشمس على جبين الدنيا، فتتباهين كأنك قطعة فجر ذات نور ملائكي سماوي... يا بستان يزدان بورد الطيبة وزهور النقاء، ويفوح منك عبير الخير وشذى البركة، أعذرينا يا مكة... أعذرينا يا قلباً ينبض بالخيرات، حقاً، فنحن نحبك. فنحن إن تسابقنا في شهر رمضان المبارك لأداء العمرة، وشددنا الرحال هرباً من قيظ جوك وحرارة شمسك صيفاً، إلى كان وسويسرا ولندن وأوروبا والشرق، ولم نعلم أن شمسك المحرقة ما إن تلامس ذرات بلاط حرمك، حتى تغدو حبيبات الرخام الأبيض قطعة من الثلج تحضن أقدام الطائفين والمعتمرين، ولم نعلم أن ماء زمزم الطاهر يطفئ ظمأ قلوب وأجساد وأوجه ضيوفك وأحبائك. أعذرينا يا مكة، فنحن إن لم نؤدِ فريضة الحج، تدافعنا لحجز تذاكر طائرتنا، وحزمنا أمتعتنا بغية الاستفادة من الإجازة، كي نكسر الروتين ونكتفي بمتابعة يوم عرفة، هذا إن تابعناه على التلفاز في فنادقنا، إن كنا في بلد عربي، لينقل إلينا أحداث الحج، نحن أبناؤك وفلذات أكبادك. أعذرينا يا مكة، فنحن إن استقبلنا حرمك، واتجهت أقدامنا إلى أعتاب مسجدك الحرام لا نستطيع أن نمنع رقابنا أن تنظر للخلف ومنه لأعلى، لتتسع أحداقنا بتلك المباني الشاهقة العملاقة، لننظر بعدها مباشرة للأرض نلملم أذيال الحسرة، لأننا لا نملك السكنى في تلك المباني، طالبين من الله العفو والعافية. أعذرينا يا مكة، إن وقفنا صفوفاً لصلاة التراويح في حرمك الشريف، واتجهت إلينا أنظار المسلمين في العالم أجمع غابطين، وتركنا أجسادنا تتبع الإمام وعقولنا في الأسواق المجاورة التي تبعد أمتاراً قليلة عن حرمك، كي ما تفرغ أجسادنا حتى تلحق بعقولنا لنستعد للعيد. أعذرينا يا مكة، إن فضلنا عليك أسواق ومدارس عروس البحر الأحمر، فتركناك وذهبنا للتسوق، وأرسلنا أولادنا للتعليم، واكتفينا بقول"فليعمرك الله يا مكة فأنت في حاجة للتطوير أكثر وأكثر". أعذرينا يا مكة، إن لزمنا الصمت حينما يسألنا الناس عن معيشتنا في أرجائك، وهل يكتنفها الملل قائلين"أين تذهبون للترفيه في مكة؟"ولم يعرفوا تلك الراحة النفسية التي تغمرين بها أرواحنا حتى وإن جلسنا في غرفة ذات أربعة جدران. أعذرينا يا مكة، إن تناسينا أن أهل مكة هم أحباب خير خلق الله سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فهم أهله وعشيرته. أعذرينا إن ترك أولادنا لبسك التراثي التقليدي واكتفوا بلبسه في الأعياد والمناسبات. فيا مكة يا من تنعدم فيك الجاذبية الأرضية كي توازي صفراً، أعذرينا إن لم تهفُ قلوبنا إليك، ولم تدمع أعيننا إن لم تعرف فضلك ونحلم بسكناك. أعذرينا إن لم نشاهد أداء الصلاة مباشرة كل يوم على التلفاز، وكحلنا أعيننا بسواد رداء الكعبة الشريفة، ولم نتابع الصلاة، واكتفينا بخفض صوت التلفاز قليلاً حين يعلو الآذان. أعذرينا يا مكة، فأنا أردد هذه الكلمة 475 ألف مرة، أثناء قطعي للمسافة بينك وبين عروس البحر الأحمرجدة، بينما أناظر الثرى الفاصل بين خط سير الذهاب وخط سير الإياب، أحلم بذلك اليوم الذي يغدو فيه ذلك الثرى حديداً يمشى فوق قضبانه قطار السكة الحديد، الذي يربط جدة بك، فأدعو الله أن أرى ذلك القطار قبل أن يخطف العمر نظري، ولا أستطيع رؤيته إلا من خلف زجاج نظارة سميكة. أعذرينا يا مكة، فنحن لا نملك توفير باصات خاصة بالحجاج، ولا نستطيع توفير مطار صغير لك، وتركنا المتخلفين يحومون بك. في الختام أعذرينا يا مكة في كل ما فعلنا، مع علمنا بأنك أم حنون تحضننا دائماً، فما زلت أرى وأسمع والدي يدعو الله أن يرزقه السكن في أرجائك، فتأكدي أنك ملكت قلب والدي، فحبك يجري في دمائه التي تجري في عروقي، وأنا ممسكة بهذا القلم كاتبة عنك. فإن رحل عبدالمجيد وأورثك تاجاً مرصعاً بذهب المجد والماس والعز وزمرد السمو وياقوت الكرامة، فخالد الفيصل لن يجعلك عروساً تغار منها عروس البحر الأحمر، بل سيجعلك ملكة للكون والدنيا والعالم بأسره، متباهية بذلك التاج، مزينة به جبينك العالي، وسيحد دايم السيف سيفه، كي يكون حارساً وأميناً وحامياً لك بعد الله. [email protected]