كانت شبه جزيرة العرب تعيش حياتها في جو من الضلال والعمى كانت ترسف في اغلال الحقد والكراهية والبغض..كانت تمارس معاشها كفراً وسكونها بعداً في الغواية والهوى. كانت لا تنفك من صنم إلا لتذوب في صنم.. كانت صحراؤها لهباً ووهادها قيظاً لا ينطفئ كانت تسكنها روح العداء وتعشعش بين وهادها علامات الظلم ..تلك الأرض التي بغير زرع مهلكة واضحة تدمر الإنسان. =1= وفي غمرة هذه الدياجير الحالكة والبحور المتحركة من الرمال اللاهبة التي كوت النفوس قبل الاجساد وصهرت المشاعر قبل الشعور.في هذا الجو الخانق كفراً وفساداً في هذا الليل المدلهم بزغ فجر الضياء في أحد أركان ذلك البيت الذي يسكنه الهدوء وتدور في أركانه حركة كان للتاريخ معها ميعاد، أمه كانت ترى في صاحب هذه الدار سيدها ومحرك شؤونها كان عبدالمطلب هو ذلك السيد المسموع الكلمة المرهوب الجانب الذي تنز من بين برديه شجاعة الكريم واحسان الحسيب .. عبدالمطلب ذلك الخبير الذي رأى نور الحياة في "يثرب" المدينة التي كانت لها مع التاريخ قصة ومع المجد ميعاد. كان "شيبة" وهذا اسمه ذلك الرجل الذي تنفذ بصيرته إلى الأشياء قبل بصره.وكانت "مدينتي" هذه التي تنام على الحب وتصحو على الشوق أريد لها أن تكون ذات ارتباط موثق مع صاحب هذه الرسالة العظيمة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. لقد كان لجده عبدالمطلب معها قصة – فعندما حطت رحال "هاشم" سيد قريش ورئيسها في "يثرب" في طريقه إلى الشام في احدى الرحلتين بين جنات نخيلها تزوج من "سلمى بنت عمرو الخزرجية" لتلد له "شيبة" فيتركه هناك في "يثرب" ويتوفى الله هاشما ليخلفه أخوه المطلب الذي يأتي يوما ب "شيبة" فتراه قريش فيقولون عبدالمطلب فيعترض عليهم بأنه ابن اخيه "هاشم" واسمه "شيبة" وليس عبده ولكن القوم "يغلبون" عليه اسم عبدالمطلب ليظل هو الاسم المشهور به وفي يوم فاض على الزمان ضياؤه أتت البشرى لعبدالمطلب بأن "آمنة" قد وضعت غلاماً.وتسرح الذكرى به إلى البعيد وكأنه يشخص ببصره ليرى عبدالله ذلك الذي فداه يوم الفداء بمائة من الجمال ، ها هو وليده البهي يشرق جبينه كشمس لا تعرف للمغيب سبيلا.يأخذه في حضنه.. يغمس شفتيه في وجهه الوضيئ يمرغ خده الأشيب على الخد الرطب..كأنه يرتشف من ينابيع الحياة لكي لا تفوته لحظة من حياة.. =2= ويتباهى عبدالمطلب على قريش بابنه الوليد وهو يحمله بين يديه ليدخل به الكعبة والدنيا ترقص بشرى في عينيه حيث أسماه "محمداً" وبات الشيخ يعطي الوليد الأزهر اهتمامه الذي لا ينضب فذبح جملا ودعا إليه كبار القوم من قريش الذين أصابهم ذهول من الاسم الذي لم تستطع محاولاتهم في كبته واخفائه على عبدالمطلب حيث قال لهم لقد أردت أن يكون محموداً في السماء لله وفي الأرض لخلقه.. وأخذ الشيخ يسبغ عليه من عطائه وحبه فكان يجلسه على فراشه تحت الكعبة حيث لا يدنو إلى ذلك الفراش أحد ليكون صاحب هذه الخصيصة وحده من بين كبار القوم ليكون الابن المدلل والغلام الذي لا يرد له شيء ولكن هذه الحال لم تدم إذ سرعان ما توفي هذا الرجل الشيخ عبدالمطلب ليذوق اليتم مرة أخرى كأن اليتم لا يريد أن يفارقه بعد أن فقد أباه وهو في بطن أمه ليفقد أمه وهو لم يتخط الخامسة من عمره بعد.. وها هو يعيش لحظة الفقد مرة أخرى. =3= ليكون أبو طالب ذلك الرجل الذي أعطاه حدبه كله ذلك الذي قال له يوماً "اذهب يا ابن اخي فقل ما أحببت فو الله لا اسلمك لشيء تكرهه أبداً". لتدوي اصداء هذه الكلمة عبر التاريخ يفيض منها الاصرار والتضحية في الوقوف بجانب هذا النبي الكريم لتدخل قريش دهاليز من التآمر والحقد والبغضاء ومضى أبو طالب إلى قومه من "بني هاشم والمطلب".يبلغهم بقرار ابن أخيه "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته"..وما أجاب به من اصرار على منع قريش عنه وطلب منهم أن يكونوا مثله وكانت استجابتهم هي الرد الذي توقعه أبو طالب ما عدا أبو لهب الذي وجد في صفوف بني أمية مكانا بارزا له. =4= أبو لهب هذا هو الذي اعتق "ثويبة" جاريته عندما بشرته بمولده عليه الصلاة والسلام كان هذا الرجل قلبه من صخر ليحمل تلك العداوة والبغضاء لابن أخيه الذي أراد أن يخرجه وقومه من الهلاك عندما طلع على "الصفاء" ليبلغ عشيرته وقومه بأمر الله الذي انزل عليه ليصرخ أبو لهب بقولته الشنيعة المغموسة في الحقد والفساد."تباً لك أتيت بنا سائر هذا اليوم ! ألهذا جمعتنا!"لينزل الرد المحكم والملجم من السماء على قلب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم آيات محكمات."تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد". وأخذ صلوات الله عليه وسلامه يتحسس مشاعر قومه يدعوهم إلى ما عنده من أمر ربه كان يقول ربي أهد قومي فأنهم لا يعلمون تذوب نفسه رقة وعذوبة.. فهو الحفي بكل من قسا عليه.. وهو المخلص لكل من محضه العداء لا يحمل قلبه ذرة كره هو فيض من نور الله يتحرك كأن رحمة الله هي التي تتحرك على الأرض لتشع النور على وجه الأرض. =5= وفي يوم يقرر صلوات الله عليه وسلامه الرحيل والهجرة إلى مسقط رأس جده عبدالمطلب "المدينة" التي كانت تحلم بهذا اللقاء .. في يوم يزهو على الدنيا.. كانت شمس ذلك اليوم رغم قسوتها من ألطف أيام فصول العام اللاهبة.. وكان لفح "السموم" من أرق نسائم الربيع في عز رهق الصيف.. كانت العيون شاخصة إلى الأفق البعيد تبحث عن القادم.. من رحم هذا الفضاء الملفوف بغموض اللحظة وباندهاشها.. وعلى أطراف تلك الحرار اللاهبة كان ينبت أكثر من سؤال من أين يشرق – القادم..؟ فتحولت كل الجهات إلى ثغر.. باسم.. وفي لحظة مسكونة بفرح الدنيا.. انطلق الصوت من أعلى رأس "نخلة" تؤرجحها الرياح. يا أبناء "قيلة" ها هو صاحبكم قد أقبل.. لتلفظ الأبواب كل ما خلفها ليتحول ذلك الوادي المحفوف بالاندهاش إلى مهرجان فرح. كان القادم يتهادى كالنسيم ووجه يفيض اشراقاً ومن أعطافه يتناثر أريج لا يشببه أي عطر.. فتحول ذلك "اللهب" اللافح.. إلى نسائم رطبة وإلى واحة.. تشعر بسلامتها في داخل النفس هدوءاً وسلاماً.. ويشق ذلك الوادي المترقب للحدث العظيم ذلك الصوت "المغرد" وهو يتماوج في تضاعيف تمايل النخيل معجوناً بأريج الفاغية.. وعطر الفل.. ورائحة الورد بذلك النغم – الجميل طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع ومعه ترقص القلوب في تجاويف الصدور.. فيتزايد وجيبها كأنها تريد أن تقفز من مكامنها.. ليكون لها شرف المصافحة.. لا يكفيها ذلك الخفقان الذي تعيشه في لحظة هي خارج الزمن لحظة كانت الفاصلة بين زمنين.. لحظة حددت الفاصل بين النور والظلام، زمن مضى بكل ما فيه من ظلم. وجبروت.. وضياع وزمن أقبل بكل ما فيه من عدل.. وسماحة.. وهداية. كان القادم على تلك "القصواء" شمساً محرقة لكل العنعنات ولكل "الجاهليات" المتغلغلة في النفوس.. ليضع حياة مليئة بالحياة مفتولة بالإيمان.. المغموسة بحب الإنسان للإنسان حيث هو .. وحيث كان. يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وتخرج المدينة في زيها وحبورها في التقاء هذا القادم الذي يحمل للدنيا سعادتها وتزغرد الفرحة في سمائها.. كأن السعد كان على موعد معها.. =6= وتزهر الاشياء في طيبة.. وتنام أول ليلتها وحبيبها في حضنها يهجع ولا ينام يرعاها ببصيرته وبصره يضع فيها قواعد الحياة لما يأتي من حياة وتكون بداية الانطلاق للمجد والسؤدد لينتشر هذا النور على كل الدنيا لتصبح المدينةالمنورة مأرز الايمان وحبيبة رسوله.. لتشكل مع مكةالمكرمة درة العالم الاسلامي الذي يدور حولهما.في هذه المدينة العروس كان المصطفى يضع في أرجائها عبق الحياة ويعطيها بهجة الحركة. =7= وبعد.. ها نحن يا سيدي قد أخذتنا الأيام في تلافيفها تسرق منا وضوحنا تعطينا في كل لحظة شيئا من شرورها وتغيب من نفوسنا طيبتها.. لم يعد يا سيدي يسكننا ذلك الوهج الذي صغته ليعيش في نفوسنا أصبحنا نشكو الغربة في داخلنا بعد أن هجرنا طريقك.. لم نعد يا سيدي.. نتعامل بالأخلاق التي غرستها فينا وجعلتها شعار حياة.. يا سيد الرسل نضع اليوم كثيرا من الأمل ونحن نسير على طريقك الذي أوضحته لنا وجعلته كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها. أنت يا سيد الرسل: يا من علمتنا الصدق وأمرتنا بالبر وكرهت فينا الظلم.. أنت يا سيدي.. يا من اعطيت من نفسك الطاهرة رشدا ونصيحة وارضعتنا للخير حبا.. وللشر كرها.. يا سيد الرسل يا من كنت رحمة للعالمين.. يا من اعطيتنا فرح الأيام وعبق الزمان.. تمر بنا اليوم ذكريات كثيرة ككل الذكريات الرائعات التي تصور لنا واقعا كنت فيه نور الدنيا ووهج الآخرة.. انت الذي علمتنا كيف يكون الفداء وكيف يكون الاخاء.. وكيف يكون البر وكيف يكون صدق الصديق.. انت يا سيدي.. من علمتنا كيف نتذوق حلاوة الايمان – ولذة التضحية .. وشذى الفداء.. أنت يا سيدي.. من علمتنا كيف تصان العهود وفاء..؟ "فاذا أخذت العهد أو اعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء" ها أنا يا سيدي.. أقف عاجزاً أمام ما صنعت لهذه الأمة عاجزا عن البوح لك: عما يجيش في داخلي.. فهذه الأمة قد تاهت عن الطريق الذي خططته لها. فمن يقف أمام كل هذه الذكريات لا يملك إلا أن يصمت في جلال..