الكثير من البشر يحمل في روحه لمسات عطف تجاه الآخرين، ويختزن في نفسه نفحات خير لإخوانه في الإنسانية، وديننا الإسلامي الحنيف يحثنا على إعطاء السائل بعد ثبات حاجته، والمحاولة قدر الإمكان لسد عوزه، ويقّر حق الفرد المحتاج على المجتمع الإسلامي، فالفرد الذي يعجز على إعالة نفسه أو إعالة ذويه يصبح مسؤولاً من المجتمع، فرعاية المجتمع للفرد في هذه الحال ليست منة أو تفضلاً، وإنما هي حق على المجتمع من باب التكافل الاجتماعي... أيضا فإن العربي الأصيل تثور ثائرته وتضيق عليه الأرض بما رحبت إذا رأى من هو في حاجته، لأن نخوته وشهامته العربية الأصيلة تأبى عليه إلا أن يقف إلى جانبه، وان يخرجه من ضائقته التي يمر بها، وإضافة إلى ما تقدم فنحن كأفراد سعوديين ننتمي إلى هذا الوطن المعطاء ذي الجذور الأصيلة والتربة الطيبة نحمل بين ضلوعنا قلوباً رحيمة وأحاسيس جياشة، ويعتصر بعضنا الألم عندما يرى إنساناً يدعي العوز أو الفقر وانه في حاجة للمساعدة. ومن هذا المنطلق فلقد استغل ضعاف النفوس ذلك واستطاعوا اختراق هذه القلوب الرحيمة والتلاعب بالمشاعر وافتعال الأحاسيس المزيفة والتحايل بالكثير من الحيل الباطلة والأكاذيب الواهية التي تعدت إلى صور مختلفة، وأخذت أشكالاً بعيدة وأنماطاً متعددة لمن يمتهنون التسول، والخوض في تلك الأنواع لا يمكن حصرها في ثنايا اسطر هذا المقال. لكن الغريب في الأمر ليس التسول بالشبهة الباطلة لمن امتهنه، لان هذا أصبح واضحاً ومعروفاً لدى جميع أفراد هذا المجتمع، كمن يرتدي الثياب البالية ذات الألوان المتعددة، والتسول بأطفال لا تمت لهم بصلة سوى تلك الفترة من اليوم في وقت التسول... ومن ذلك أن يأتي المتسول بعلبة دواء فارغة لا يعرف عن محتواها أو في أي مرض يستخدم الدواء الذي تحتويه، ولا يعرف إلا غلاء ثمنها لكي يرجعها بعد شرائها من ضحيته المحسن إلى الصيدلية وأخذ نقودها بأي حجة كانت، وأيضاً التسول بأوراق تحمل أختاماً أو شبه أختام مزيفة إن لم تكن معدومة على المطالب المالية العالية المترتبة على من يتسول بها ويدعي حاجته. وسأحاول أن أعرج على نوع واحد فقط ظهر أخيراً، ويعتبر أحدث صيحة في فنون التسول وبشكل لافت في مجتمعنا وهم فئة المدمنين على المخدرات الذين جعلوا من التسول مصدراً لهم لتعاطي السموم والقدرة على الوفاء بما يتطلبه حصولهم عليها من مبالغ مالية، فإذا جاء احدهم إليك وطلب منك المساعدة في أن تعطيه بعضاً من المال، فإنه سينفقه على شراء المخدر! نعم من اجل شراء المخدر ليتعاطاه لأنه مدمن على المخدرات، وعندما تكتشف ذلك فانك تثور وستقذفه بأنواع الشتائم، وكل ذلك مقترن بذهول ودهشة لانغماس ذلك الشخص في وحل المخدرات ولوقاحته في طلب المال من اجل ذلك... وقد يصل بك الأمر إلى أن تبلغ عنه الجهات الأمنية وهذا هو المطلوب. ولكن الصورة الأخرى وهي التي أصبحت منتشرة في الآونة الأخيرة وهي أن بعض المتسولين هم في الأصل مدمنو مخدرات ويدعون الحاجة والعوز وسرد المآسي المريرة بصورة خيالية تنبئ عن مولد قاص أسطوري، يؤدي دوره وكأنه واحد من محترفي التمثيل العالمي، ولابد من المقومات الأساسية لنجاح هذا العمل الفني بأن يأتي على كرسي متحرك يستعين بقدميه لتحريكه... وبعد أن ينتهي من عرض مسلسله اليومي ويكسب تعاطف من قام بالتمثيل أمامهم أو بالأحرى من استغل طيبتهم و"استغفلهم"وجمع المال الكافي، يذهب بعيداً وينزوي عن أعين الناس ثم يترجل على قدميه ويعدل هندامه وكأنه خارج من"البلتوا"الذي كان مخصصاً لتصوير تلك المشاهد ومن ثم يوقف سيارة الأجرة ويتوجه مسرعاً إلى مروجه لكي يضع بين يديه جميع ما أجاد به من ظنوا أنهم يقدمون الخير والإحسان لهذا المتسول المدمن الممثل، وكأن لسان حالهم يقول"تعاطى المخدرات... ونحن معك"! والكثيرون غيرهم ممن يمتهنون ذلك ولهم طرق أخرى في الإنفاق على أنواع متعددة من الإجرام والإفساد. إن أبواب الخير معروفة وطرقها واضحة ولها جهاتها المعلومة، وان المحتاجين الحقيقيين معروفون لأهل الخير، ومن وهب نفسه لهذا العمل النبيل سواء كان ذلك على شكل مؤسسات خيرية أو أفراد، مع العلم بان الكثير من المحتاجين لا يعلم بحاجتهم إلا هو سبحانه وتعالى، ومنا من يعلم بحاجة بعض أقاربه أو أصدقائه أو حتى جيرانه، فهم من يستحق أن يعطوا لستر عوزهم ولضمان وصول تلك الأموال إلى من يستحقها، وللتأكد من أن تلك الأموال التي تعطى لن تجر المحسن إلى تمويل أعداء مجتمعه بطريقة غير مباشرة وجلب الأضرار والفساد لأبناء وطنه. [email protected]