عامان مرا كانا كالشهد وأشهى، شهدا في عهد قائدنا الماهر الملك عبدالله عدداً من الانجازات، وتطرزا بأحلى عقود الجمان، رآهما غيري ومضاً وأراهما ضوءاً سيستمر ما شاء ربي، وما هذا بمستحيل، فما تأسس بنيانه على تقوى من الله ليس كمن تأسس بنيانه على شفا جرف هارٍ... ومن هنا كانت القيم والأخلاق قائدة الأمم: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا فقد هيأ الله للجزيرة نفراً صالحاً لنصرة دينه ورسوله، فجندوا الحشود وأعلنوا الجهاد لتنهد القباب وتعلو المآذن، وليتحول الناس إخواناً بعد أن كانوا أعداء وليكونوا مؤمنين حقاً، سلاحهم الإيمان وهدفهم وحدة الأوطان، فانطلقوا متحمسين له لا يبتغون سوى الله والدار الآخرة، وهي الصفات العظيمة التي رأى الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أنها كفيلة بتكوين جيوش الفتح والوحدة، وهذا من ذكاء الإمام الموحد وتشجيعه القدرات التي برع في اختيارها وشدها إليه، لأنه رجل وحدة موصولة بالله لا رجل مرحلة تنقطع عند رغبة بشرية. لقد تأكد الملك عبدالعزيز من الحماسة الإيمانية التي تعمر قلوب المجاهدين، فوجههم الوجهة الصحيحة بما له من حنكة وبراعة، واستطاع الموحد أن يؤلف القلوب ويوجهها نحو خير الدين والوطن، ويجمعها لبناء الأمة، فينطلقون سهاماً قبل سهامهم تاركين العروس والولد ووثير المفرش حتى رسمت دماؤهم أقواس قزح وانبتت نفوسهم سنابل القمح في صحاري القحل. إن ما جعل الملك عبدالعزيز ينجح هو أنه لم يكن قصير نظر ولا كان يتيح المجال لجاهل أو مغرض أو يسمع من منافق، بل كان يحسم الأمور لصالح الجموع المؤمنة وفق شرع السماحة والرحمة ونبذ التشدد والتطرف، فالمطوع"السوكر"الذي بُعث لإحدى القرى يَقرأ عليهم القرآن ويصلي بهم الفرائض، ساقوا إليه مسافراً مسكيناً أفطر لما تعب في نهار رمضان فرأوه عاصياً قد كفر، وانبرى شيخهم"السوكر"متهوراً يظن أن الإسلام لن يستقر إلا بالقوة، وأتى بفتوى مفادها أن تقطع يده ورجله من خلاف ليكون عبرة لمن يعتبر، فلما سمع أقارب المحكوم عليه بقسوة الحكم نقلوا ذلك للملك عبدالعزيز - رحمه الله - الذي أمر من فوره بتنحية"السوكر"عن عمله. وإذا كانت تبدر منهم هفوات فليست دليلاً على سوء الطويات، فهم مخلصون مجتهدون وهذا منتهى علمهم، فإن أخطأوا فلهم اجر الاجتهاد وإن أصابوا فلهم اجر الإصابة والاجتهاد، وما تشددهم الذي يرونه تحرزاً إلا تصرف أملته المرحلة لئلا يعودوا أعداء جهلاء يضرب بعضهم رقاب بعض، فلا بد من توجه عام تعض عليه النواجذ، فلقد كانوا حساسين بشدة تجاه ما يخالف السنة... ومن ذلك ما يروى عن أن أحدهم شرب غبوق الناقة فترك رغوة الحليب لم يلحسها، فرأوا ذلك كفراً بالنعمة فضربوه تكفيراً له عن ذنبه، وعقاب الدنيا مع التوبة يغفر الذنب وترجى معه الرحمة، وحينما قام يتعثر في مشيه ألحقوه معمه عمامته فقال: الذي احل لكم ضربي سيحل لكم معمي! وما عهد خادم الحرمين إلا قبس من ذلك النور، فلقد اتسم عهد الملك عبدالله بقيم حضارية وأخلاقيات إنسانية منها: الشفافية التي تحتاجها حياة الناس اليوم في خضم الزحام والصخب وتعدد المسؤوليات، ما يستدعي كشف كل ما يؤثر على العمل ويدفع لتحسينه. كما أقرت في عهده - أمد الله في عمره - حقوق الإنسان ودعم عملها ولقيت المساندة من لدن خادم الحرمين، بل خصصت لها مبالغ مالية ونشط في عملها حقوقيون ومتخصصون، ويبقى الإخلاص لأهدافها السامية وجدولة مهامها ومتابعة انجازاتها وعدم اتخاذها ديكوراً مكملاً لبريق إدارتنا... كما لوحظ اتساع مساحة حرية التعبير المسؤول، التي لن تسيء للعمل بقدر ما تنجب له رقباء يخدمون دفعه للإمام بأمانة. وتميز عهد الملك عبدالله بإعلان هيئة محاربة الفساد التي سيكون لها الشأن القوي في تقدم البلد ونزوعه نحو العالمية، وقدرته على المنافسة وسط عالم لن يبقى فيه إلا المؤهل للتكيف مع العولمة، التي إن لم نهيئ أنفسنا للسير في ركابها بحسب ما تميله عليه قيمنا وإلا أخذتنا من دون استئذان. وطالما شدد خادم الحرمين على رعاية حقوق المواطن والاهتمام بمصالحه وانجازها في أسرع وقت، ووظف آلاف الشباب فكانت أميز المكارم السامية، ولعل أن يرافقه تدريبهم على حاجات العمل لزيادة الإنتاجية، كما أمنت متطلبات الشباب فافتتحت جامعات عدة في عدد من المناطق، وكان برنامج ابتعاث الطلبة أقوى مظاهر العناية بالشباب المتطلع لمستقبله الواعد. وما الحوار الوطني إلا قمة الإخلاص للبلد، حين تناقشت أطياف المجتمع بصراحة وموضوعية في ما يعلو بهم ويقوّم مسارهم ويتجه بهم نحو الفاعلية المنتجة بحب وحماسة، وكان فكر الملك عبدالله يستهدف التنمية الشاملة والرقي بكل طوائف الشعب من دون استثناء، وما زياراته لمختلف المناطق وصراحته في الطرح إلا دليل النظرة السامية المخلصة لأبناء بلد الرسالة والسلام، وتطلب رفعة الأمة في وحدتها وفي سموها في قلبها وقالبها وقبلتها من دون أن يكون لأولئك المتحدين في الاحتكار وتجيير المنافع للخاص، وتبادل المصالح من تحت الستار، أو من خلال ثغرات النظام أياً كان، وإبعاد من صنع قلعة منيعة أمام الطوابير التي تطلب حاجتها واتخذ له من مكتبه القريب متنزهاً جميلاً ليقطف من فوق رؤوس المستحقين يانع حقوق الآخرين من دون أن يسمى هذا سرقة بل يراه شطارة! ومسكين هو النظام تكسر فقراته ليخدم مقربين ويصبح مستقيماً شامخاً متعالياً أمام مبعدين، ويتحول المال العام إلى عصارة صديد لسراقٍ لئام يظهرون أمامنا نظيفي الثياب وداخلهم أوسخ من ذنب الكلاب. ولقد جاءت المجالس الملكية خيراً على خير، فهي مجالس رأي وشورى، إلى جانب أن تكون مفزعاً للمظلومين وفضحاً لممارسات المخطئين وإكراماً للمجتهدين ثم تتوج بتوجيهات القائد الذي جعل نصب عينيه خوف الله والمساواة بين مواطنيه. إن الوحدة التي قادها الرأي الحصيف، وشارك فيها الجميع وباركها رب السماوات، فأينعت في الأرض الياسمين وأتحفت بخيرها كل العالمين لتوجب علينا رعايتها بقلوبنا وانجاز مهامها بمهارة أيدينا وإبقاءها سامقة غير ملوثة بطابع الأنانية... فلنحرص على النخلة الخضراء من أن تلون بألوان باهتة أو تحتكر أو تسور أو تمنع العذب وتسقى الزعاف. [email protected]