كان وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز، صريحاً وواضحاً عندما تحدث عن الجانب الفكري في محاربة الإرهاب، وان هذا الجانب لم ينجز الشيء الكثير بخلاف الجانب الأمني والذي اثبت فيه رجال الأمن السعوديون قدرات عالية، تمثلت في الوصول إلى خلايا الإرهاب والقيام بضربات استباقية جنبت البلاد خسائر بشرية ومادية ومعنوية لا يعرف حجمها إلا الله سبحانه وتعالى. هذا الانجاز الذي حققه رجال الأمن أثار إعجاب المواطنين والمراقبين واستحقوا الإشادة به من أطراف دولية متعددة، لكن في المقابل لا تزال مواجهة الجانب الفكري الذي يغذي الإرهاب، قاصرة. ومع أن الكل يدرك أن التعامل مع الأفكار وتغيير القناعات يحتاج إلى جهد اكبر ووقت أطول ولكن تبقى هناك بعض المؤشرات والدلالات التي تجب مناقشتها بصوت مرتفع، إضافة إلى الكثير من الأسئلة الصعبة التي يجب طرحها ومحاولة تلمس الإجابة لها وإلا ستبقى المسألة الفكرية مستعصية على الحل. كما أن الزمن وحده لا يحل المعضلات ولكن إرادة الإنسان في التغيير هي التي تسرع في حل الإشكالات واختصار الزمن معاً، وهذا الأمر واضح في قوله سبحانه وتعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فالتغيير مطلوب من الإنسان الذي يجب أن يسعى لما هو أفضل لنفسه ولمجتمعه. في قضيانا الفكرية هناك أمور تبدو محسومة لفئة كبيرة من الناس وعندما تحاول أن تستطلع آراءهم حولها تجد أن الاختلاف قد يصل إلى حد التناقض، فمفهوم الوطن تجده يغيب عن كثير من الطروحات الفكرية وغالباً ما يتم الحديث عن"الأمة"بشكل مطلق مع أن الدلالات التطبيقية تشير إلى ضرورة تكريس مفهوم الوطن، فهل لا تزال هناك فئة ترى حساسية ما من استخدام كلمة الوطن، والوحدة الوطنية؟ صحيح أن هناك مفهوم الأمة، ولكن هذا المفهوم لا يتعدى"الفكرة المجردة"من دون أن يكون له أي تطبيق واقعي ملموس... لماذا عند الحديث عن مشكلاتنا وقضايانا نتحدث عن"عالم متخيل"ونبتعد عن العالم الواقعي؟ هذا لا يعني عدم التعاطف والتعاون والعمل على حل مشكلات الآخرين خارج حدود الوطن، فنحن في المملكة عندما نتحدث عن الثوابت، نتحدث عن ثلاثة مفاهيم محددة من دون أي درجة من الالتباس وما نقصده بالثوابت الثلاث: التمسك بالعقيدة الإسلامية، والوحدة الوطنية - وهي الحدود الجغرافية للدولة السعودية المعاصرة والقائمة حالياً والمعترف بها دولياً والتي تقع تحت سيادة السلطة المركزية - والثابت الثالث: هو شرعية الأسرة السعودية المالكة والتي تمثل السلطة المركزية. وهنا يبرز السؤال ما هي الإشكالية في غرس مفهوم المواطنة الذي تقوم كل المجتمعات الحديثة على أساسها؟ ولماذا لا يكون هناك توحيد في مفهوم ومصطلح"الوطن والمواطنة"بما يتفق مع تطبيق العقيدة الإسلامية، فالنصوص القرآنية تثبت هذا الاختلاف وتؤكد هذا المفهوم في آن: وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، وكذلك الآية: ولو شاء لجعلكم أمة واحدة. فالنصوص القرآنية تحمل سمة التطور وما يتضمنه ذلك من مفاهيم معاصرة. وعلى هذا الأساس نحن كمسلمين نجادل الآخر بأن الدين الإسلامي صالحاً لكل زمان ومكان، ولكن عند الحديث عن فكر الإرهاب نجد أن هناك من يعتقد أن هذا الفكر دخيل على مجتمعنا ووافد إليه من الخارج، وهذا الطرح بطبيعته يلغي مفهوم"الأمة الواحدة"ولكن هذا الإلغاء يستخدم لغرض معين فقط، وهو إبعاد التهمة عن أنفسنا من دون أن يكون هناك فصل حقيقي بين المفهومين، بما يعزز مفهوم المواطنة. هذا التناقض في الخطاب يعد إشكالية حقيقية فنحن نتحدث عن مشكلات الأمة بمفهومها العام ولكن المتلقي"الجاهل"والذي بطبيعة تكوينه محدود المعرفة، يعتقد أن المعلومات التي يتلقاها حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها ولا يفرق بين ما ينطبق على وطننا المملكة العربية السعودية، وبين ما ينطبق على أجزاء من العالم العربي أو العالم الإسلامي. فمجتمعنا مجتمع متدين بطبعه، وكل القوانين والتشريعات المعمول بها في بلادنا مستمدة من الشريعة الإسلامية، فمنطقياً لماذا نحمّل مجتمعنا أخطاء الآخرين وممارساتهم، هنا تأتي مسؤولية المفكرين والمثقفين في توضيح مفهوم الوطن والمواطنة والتطبيق العملي لهما. ومن الأسئلة الصعبة التي يجب أن توجد الإجابة لها: كيف تكونت فئة من الشباب تواجه إشكالية في"تحية العلم"، والعلم هو رمزية الوطن، فنحن نحيي بعضنا صباحاً ومساءً فما هي المشكلة الثقافية في تحية الوطن؟ وما الإشكالية الثقافية في الوقوف"للسلام الملكي"الذي يرمز لشرعية السلطة؟ وما التحفظ على موسيقى السلام الملكي إذا كانت هناك مراجعة حقيقية للنصوص الشرعية واستنباط لمقاصد الشريعة؟ وحتى لمن يستدل"بلهو الحديث"على أنه الموسيقى لا يستند إلى حكم قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وحتى الحديث المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم عن"الحر والحرير والمعازف"، يحتاج إلى إعادة نظر وإعادة قراءة. فهل يمكن المساواة بين الزنا ولبس الحرير؟ فإذا كان الحرير محللاً للنساء فهل الموسيقى بكل أشكالها محللة للنساء ومحرمة على الرجال؟ أنا لا أستطيع أن أفتي في هذا الموضوع ولكنني أطلب من علمائنا الأجلاء التوضيح بشكل صريح للقضايا الخلافية. عندما بدأ الملك عبدالله"حفظه الله"? حين كان ولياً للعهد - في مشروع الحوار الوطني، كان الهدف من الحوار الوطني تعليم الناس قبول الاختلاف وإلا ما الفائدة من الحوار أصلاً؟ فهدف الحوار إما أن نصل إلى قواسم مشتركة تذيب الاختلاف أو نقبل بالاختلاف قولاً وعملاً لا لمجرد الكلام فقط. القضية الأخرى والتي تشكل حساسية بالغة لدى الكثيرين هي مسألة غطاء الوجه للمرأة، فلا بد من ان يكون هناك نقاش صريح لهذا الموضوع ولا بد من ان يكون هناك تطبيق صريح للحكم الشرعي بغض النظر عن العادات والتقاليد، ففي حال العادات والتقاليد: أنت لا تجبر الناس على سلوك معين، ولكنك تعطي الخيارات الشرعية أمامهم، ولكل شخص تقدير ما يناسبه من العادات والتقاليد، ويجب أن يحمى الاختلاف بقوة القانون فإذا كان هناك على سبيل المثال ثلاثة احتمالات لطريقة التعاطي مع وجه المرأة:"الحجاب، النقاب، غطاء الوجه"، فيجب أن تحمى الخيارات الثلاث للمرأة السعودية طالما أن أي من الاحتمالات لا تخالف نصاً شرعياً قاطع الثبوت قاطع الدلالة، وإلا ما معنى أن نتحدث عن الوسطية وأننا مجتمع يؤمن بالوسطية، ولكن عندما يأتي التطبيق لا ندري ما هو المقصود بالوسطية، فالوسطية تحتاج إلى مفاهيم إجرائية محددة نستطيع أن نتعرف عليها في سلوكنا وتعاملنا اليومي بحيث يكون هناك مجال لقبول الاختلاف ضمن الثوابت. وهذه السلوكيات هي التي تحدد وسطيتنا من عدمها ومحاربة الفكر الإرهابي في مجملها لا تأتي إلا بإعطاء المزيد من الحرية لطرح الاختلافات ومناقشتها مع الحفاظ على الثوابت والتمسك بها، فالتطرف أساساً ينبع من احتكار الحقيقة المطلقة مع أن الحقيقة المطلقة لا يعرفها إلا الله سبحانه وتعالى، ومعرفة الإنسان نسبية: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. * أكاديمي سعودي.