في كتابه الرائع"بلدي"تحدث الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف عن لغته الأم، اللغة الآفارية قائلاً: يقال إنه لم يكن في اللغة الآفارية في الماضي، البعيد جداً، سوى عدد قليل جداً من الكلمات، فمفاهيم كالحرية، والحياة، والشجاعة، والصداقة، والخير، كان يعبر عنها بكلمة واحدة أو بكلمات متشابهة جداً من حيث لفظها ومعناها. - ليقل الآخرون إن لغة شعبنا فقيرة... أما أنا فأستطيع أن أقول بلغتي كل ما أريده، ولست في حاجة إلى لغة أخرى كي أعبر عن أفكاري ومشاعري. - لغات الشعوب بالنسبة لي، كالنجوم في السماء، أنا لا أود أن تذوب النجوم كلها في نجم واحد، فالشمس كفيلة بذلك، لكن لندع النجوم تتلألأ، ولتكن لكل إنسان نجمه، أنا أحب نجمي - لغتي الآفارية الأم. - إحدى النساء صبّت على رأس امرأة أخرى هذه اللعنة:"ليحرم الله أولادك اللغة التي تتكلم بها أمهم". - لكل قرية لعناتها... إحدى هذه اللعنات ترى نفسك موثق اليدين والرجلين بوثاق غير منظور، وفي ثانية ترى نفسك في نعش، وفي ثالثة تسقط عيناك في الصحن الذي تأكل منه، وفي رابعة تتدحرج عيناك على الصخور الحادة وتسقطان في الهاوية. واللعنة الموجهة إلى العينين تعتبر من أرهب اللعنات، لكنه يوجد مع هذا ما هو أرهب منها، فقد سمعت في إحدى القرى امرأتين تتبادلان الشتائم: - ليحرم الله أطفالك من يستطيع أن يعلمهم اللغة. - بل ليحرم الله أطفالك من يستطيعون أن يعلموه اللغة. - إلى هذا الحد تكون اللعنات مرعبة في بعض الأحيان، لكن في الجبال، وحتى من دون لعنات، يفقد الإنسان الذي لا يحترم لغته الأم احترامه، فالأم الجبلية لن تقرأ أشعار ابنها، إذا كانت مكتوبة بلغة فاسدة. - من دفتر المذكرات: التقيت في باريس ذات مرة برسام داغستاني كان قد غادر البلد إلى روما للدراسة بعد الثورة بقليل، وهناك تزوج إيطالية، ولم يعد إلى بلده... الداغستاني الذي اعتاد قوانين الجبال يصعب عليه أن يألف وطنه الجديد، أخذ صاحبنا تارة يهيم في أرجاء الدنيا ويحط الرحال في العواصم المتألقة تارة أخرى، لكنه كان يحمل حنينه وشوقه حيثما ارتحل. حين عدت من باريس بحثت عن أقارب الفنان، ولدهشتي تبين أن أمه ما زالت على قيد الحياة، وبحزن أصغى أقاربه الذين اجتمعوا في البيت إلى حديثي عن ابنهم الذي ترك وطنه واستبدل به أرضاً غريبة، لكنهم كانوا مسرورين لأن ابنهم حيّ. وفجأة سألتني أمه: هل تحدثتما بالآفارية؟ - كلا، تحدثنا بواسطة مترجم. غطت الأم وجهها بطرحة سوداء... وبعد صمت طويل قالت: - أنت مخطئ، يا رسول، لقد مات ابني منذ زمن بعيد، فابني لم يكن ليستطيع أن ينسى اللغة التي علمته إياها، أنا أمه الآفارية. - أسأل الله ألا يحرمني لغتي، لأني أريد أن أكتب بشكل تكون فيه أشعاري، وكتابي هذا، وكل ما سأكتبه، غالياً ومفهوماً بالنسبة لكل جيلي، ولكل إنسان يقع كتابي بين يديه... وباختصار، إذا فسدت لغتي الأم فسيكون هذا بالنسبة لي أفظع شيء في حياتي. - إيه يا لغتي الآفارية، أيتها اللغة الأم! أنت ثروتي، كنزي المحفوظ ليومي الأسود، ودوائي من كل العلل... أنت التي قدتني كالطفل من يدي، وأخرجتني من قريتي إلى العالم الكبير، إلى الناس، وها أنذا أتحدث إليهم عن أرضي. - أنا أعرف أن بعض أصدقائي غادروا قراهم وذهبوا يعيشون في المدن الكبيرة، وهذا ليس بالمصيبة الكبيرة... ولكن أي موقف سيكون لي من بعض أصدقائي الذين يعيشون في المدن الكبيرة ويكتبون الآن بلغة أخرى؟ وليس بودّي أن أعظهم، لكنهم مع هذا يشبهون من يحاول أن يمسك بطيختين بيد واحدة. لقد تحدثت إلى هؤلاء المساكين، ووجدت أنهم لا يكتبون الآن الآفارية، إنها تذكرني بغابة يعبث بها حاطبون بلداء. - أجل، رأيت أمثال هؤلاء الناس، لغتهم الأم بالنسبة لهم لغة صغيرة وفقيرة، فراحوا يبحثون لأنفسهم عن لغة أخرى، غنية وكبيرة، فكان من أمرهم ما كان من أمر الجدي في الأسطورة الآفارية... ذهب الجدي إلى الغابة لينمو له ذنب ذئب، فعاد حتى من دون قرنين. - اللغة تتغير بالطبع، وأوراق الشجرة أيضاً تتبدل كل عام: بعضها يسقط وبعضها ينمو مكانه، لكن الشجرة ذاتها تبقى وتصبح مع كل عام جديد أزهى وأورف وأقوى، وعليها تنمو في آخر الأمر الثمار. قد تشفى بعضهم لغة أخرى. لكني لا أستطيع أن أغني بها. وإذا كانت لغتي ستضمحل غداً، فأنا مستعد أن أموت اليوم. أنا أخشى دوماً عليها. ليقولوا إن لغتي فقيرة، وإنها لا تسمع من منبر الأممالمتحدة. لكنها عظيمة بالنسبة لي وعزيزة. - يجب أن نحافظ على لغتنا ومحافظتنا على تراب وطننا... حين يموت الوالد، يورث أبناؤه بيتاً، حقلاً، سيفاً، مزماراً، لكن الجيل، حين يذهب، يورث غيره من الأجيال التالية اللغة، من عنده لغة بوسعه أن يبني بيتاً ويحرث حقلاً، ويصنع سيفاً، أو مزماراً ويعزف عليه. - إيه، لغتي الأم! لا أدري إن كنت راضية عني، إنما أنا أعيش بك، وبك أعتز، وكما يندفع ماء الينبوع من الأعماق المعتمة إلى النور حيث الخضرة، كذلك كلمات لغتنا الأم تتدافع من قلبي إلى لساني، لتهمسك شفتاي، فيبدو لي أن نهراً جبلياً يهدر في مضيق شاقاً طريقه، أحب هدير الماء، وأحب رنين الفولاذ الدمشقي حين يلتقي خنجران استلا من غمديهما، كل هذا موجود في لغتي. من الصعب علي، يا لغتي الأم، أن أجعل كل الناس يعرفونك، وكم يصعب على غير الآفاري أن يتعلم لفظها، لكن ما أعذب لفظها حين يتقنه المرء! حين ألتقي بإنسان يستطيع أن يعد حتى العشرة بشكل صحيح باللغة الآفارية، فهذا العد يشبه الرجولة اللازمة لإنسان كي يقطع نهراً فائضاً من الضفة إلى الضفة الأخرى وهو يحمل صخرة عظيمة على كتفيه. - نحن في الواقع ننظر بحزن واستنكار إلى الأطفال الذين لا يعرفون لغة أهلهم، وهؤلاء الأولاد لا يلبثوا أن يلوموا والديهم لأنهم لم يعلموهم لغتهم، يا لهم من أناس يستحقون الرثاء. - وفي الواقع ها نحن أولاء نجلس أمامكم، ها هي ذي أشعارنا، قصصنا، رواياتنا، كتبنا... ها هي ذي صحفنا ومجلاتنا، إنها تصدر بلغات مختلفة، ويصدر منها مع كل عام أعداد متزايدة. البلد العظيم لم يرفض لغتنا، بل أعلنت شرعيتها وثبتتها فتلألأت كالنجوم"والنجم يتحدث إلى النجم"نحن نرى الآخرين، ويرانا الآخرون، ولو لم يكن هذا، لما سمعتم أنتم أيضاً عنا شيئاً، ولما اهتممتم بنا، ولما كان هذا اللقاء. هذا بعض ما قاله الكاتب الأسطورة رسول حمزاتوف عن لغته الآفارية التي يتكلمها عدد محدود جداً من الناس، فماذا فعلنا نحن بلغتنا العربية الخالدة؟ الذين لا يعرفون لغتهم كما يجب، لن يعرفوا شيئاً! * أكاديمي وكاتب سعودي. [email protected]