على ساحل بحر قزوين الممتدّ بين مدينة غروزني، عاصمة ما يُعرف اليوم ببلاد الشيشان، وبين مدينة باكو، عاصمة اذربيجان، تقع جمهورية داغستان ذات الاستقلال الذاتي في "الاتحاد السوفياتي سابقاً، عدد سكانها يناهز المليونين، عاصمتها ماختشكالا. وقد عاشت هذه البلاد مهملة طوال أحقاب مريرة، وعانت من الاحتلال التركي، وعرفت السيطرة والتبعية الروسية. ولم تنهض من رقادها الا في مطلع القرن العشرين. فارتبطت بحضارته، وعرفت الازدهار. فاخترقتها الشوارع والطرق الضخمة. وقامت فيها الجامعات والمدارس. وشمخت المباني الشاهقة. ونهضت فيها الحركات الثقافية والعلمية والفنية. وصدرت الصحف والمجلات، وأجهزة الاعلام المسموعة والمرئية. وقد بقيت البلاد بأسرها حتى انهيار الاتحاد السوفياتي، فتحوّلت الى مسرح كبير للاضطرابات والقلائل، وما زالت حتى الآن موئلاً للموت البليد والنشيط معاً. وبلاد الداغستان مكسوّة بالكروم والاشجار المثمرة من كل نوع. وقد أصبحت العاصمة ماختشكالا عامرة بالتجديد والجديد، الى ان جاءت الاحداث الاخيرة فحوّلتها الى مكان يعيث فيه الموت اشكالاً من الاضطراب وعدم الاستقرار. لقد سطعت في الداغستان حركة ثقافية وشعرية ناشطة، كان أبرزها الشاعر الكبير رسول حمزاتوف، الذي عرفه العالم من خلال ما نُقل من قصائده الى العديد من اللغات. وهنا تجدر الاشارة الى ان اللغة المعتمدة هناك هي اللغة "الأفارية" وهي خليط من المغولية والتركية، بحيث يصعب على المتقصّي ان يعثر على شعرها المعاصر، الا ما نقل منه الى اللغات الروسية والاوروبية وهو نادر في هذه الآونة. ويطيب لنا ان ننقل من شعر رسول حمزاتوف ما تيسّر، لعلنا بذلك نقدم الى قراء الحياة نموذجاً من شعر هذا الفنان الكبير. حبيبتي المطر يدق النوافد، وأنا أفكر بك الثلج يفرش الحديقة: وأنا أفكر بك الألق في الفجر الطالع: وأنا أفكر بك الصيف في الخارج: وأنا أفكر فيك العصافير تجيء: وأنا أفكر بك والطيور تغادر: وأنا أفكر بك الأدغال تخضوضر، وتتّشح بالأبيض وليس لديّ سوى همّ واحد أن أفكر بك حقاً، ينبغي ان تكوني رعهبويةَ رائعة ما دمتُ ليلاً ونهاراً أفكر بك. شوق من محطة القطار، جئتك، مباشرةً حاسر الرأس صامتاً كما هي الحال عندنا أمام كل قديم مَهيب هاأنذا.. أمامك كنت على يقين أنني، عاجلاً أو آجلاً سيُتاح لي ايضاً أن أرى نجومك تلتمع في قبة السماء كُنتُ أفكر بحياتها البهيّة وأنا في الجبال وفي حومة القتال صاحبة الأنامل المنَاع وكانت "أفار" تنسجك في صدر السجاد الجميل. "لم استطع طوال ايام وأسابيع أن أنفصل عنك، أنتِ التي كان صانعو السلاح عندنا يحفرون وجهك على خناجرنا انا لم أحضر الى هنا عبثاً لكنك كنت تسطعين منارة لي لا نجمة مغيب وكان الناس عندنا لكي يضبطوا ساعاتهم يرمقونك من بعيد. طيور اللقلاق كنت أظن أحياناً أن الشجعان أثناء القتال تُباكر في حصرهم منجلُ الموت حتى لكأنهم لا يتوسّدون التراب بل استحالوا طيور لقلاق في السحاب. وأنهم منذ ذلك الحين يتحلّقون في السماء ويرشقوننا بنداءاتهم من الأعالي. فلهذا تتوقَّف كلماتنا عندما نتأمل السماءَ حزانى ... وفوق السهول الغريبة أرى هؤلاء السياح السماويين يشدّون صفوفهم، كما يفعلون في الارض عندما كانوا رجالاً في السابق. انهم يستمرّون في إكمال طريقهم الطويل يرشقون الضباب الشغوف باسمائهم ولهذا بدون ريب، تشبه نداءاتهم لغتي الإفارية * ... وأقول: اليكم هذه الطيور تمرُّ على خفق الجناح المتعب خلال اليوم المتداعي. فاذا ما حصلَ في صفوفهم مكان حر فلربما كان المكان الذي ينتظرني. إنني أظن ذات يوم وأنا اخترق الضباب الشغوف سألتحق بتحليق هؤلاء المهاجرين ان نداءاتي ستتجه تواً الى قلوبهم!. * اللغة الافارية هي لغة الداغستان