تظل الأحاديث المثارة حول عيد الأم بمعزل عن أي تغيير أو تطور، إذ تبقى أخبار احتفالات الفنادق، وأسعار الهدايا، والتحدث عن البطولات في تكريم الأمهات، وعن مدى غلاء الهدايا التي نقدمها لهن، هي المواضيع المسيطرة على الأجواء، وبين الموافقين والرافضين لهذا العيد تبقى لهذا اليوم أهمية تدفعنا للتأمل والتفكير في أحوال الأم. وعلى رغم أن التغيير تسلل إلى كل زاوية من زوايا حياتنا، إلا أن القناعة بأن الأم وحبها بمنأى عن أي تغيير تبقى ثابتة. وكنت قرأت عن خبر لا أدري مدى صدقيته يقول إن التجارب العلمية الحديثة أثبتت أن الأمومة شيء مكتسب وليست غريزة قابعة في تكويننا الأنثوي، الأمر الذي أثار لدي التساؤل: هل من الممكن أن تصدر لدينا أمهات بمواصفات عصرية من إصدارات 2007؟ من القطعي أن الأم وعطاءها وحبها اللا متناهي من الثوابت التي لا يمكن التشكيك فيها، قال تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، وهذا مؤشر رباني ينبه إلى المنزلة العالية للوالدين، ودليل أيضاً على أن العطاء الصادر عن الآباء والأمهات عطاء لا تمكن مجاراته، ولذلك فإن التغيير لا يمكن أن يمس عاطفة الأم، ولكن من الممكن أن يكون مس شكل هذا الحب أو طريقة التعبير عنه، فنحن حقاً أمام أمهات عصريات، يعبرن عن عاطفتهن بطريقة 2007. لقد أصبحت هموم أمهاتنا وجداتنا بعيدة كل البعد عن هموم الأمهات في هذا العصر، فأصبح عطاء الأم الفلسطينية والأم العراقية"موضة قديمة"، أما الأخلاق التي كانت تسعى الأمهات لزرعها في نفوس وقناعات أولادهن كالكرم والتسامح والقناعة والتواضع، أصبحت مصطلحات لا تنسجم مع التربية الحديثة ومعاييرها غالباً، ولا مع متطلبات العصر، التي تتلخص في الذكاء والدهاء وحسن اصطياد الفرص والقدرة على التكتيك. وبعد أن كانت هموم الأم تبدأ من تأمين وجبة لإشباع أولادها تحضرها بجسدها وبروحها أصبح همّ الأم الآن تأمين أسرع وجبة بغض النظر عن الفائدة المستمدة منها، وبعد أن كانت الأم تحرص على ظهور ابنها بكامل أدبه وتهذيبه أمام المجتمع أصبح الهمّ الآن هو ظهور الطفل بكامل أناقته مع ثياب من الماركات الغالية الثمن، بغض النظر عما يمكن أن يتلفظ به هذا الطفل من كلمات خارجة عن حدود الأدب وخارجة عن التهذيب. إضافة إلى حرص هؤلاء الأمهات على تعليم أولادهن اللغات الأجنبية قبل أن يتعلم أبناؤهن الحروف الأولى من لغة بلدهم، لقد أصبحت هموم الأم العصرية منصبة على تأمين الأموال والمناصب الوظيفية لأولادها، ليبقى شعار الثروة في الأخلاق شعاراً يأكله الغبار. لقد أصبحت همومها من هموم هذا العصر، إلا أن حبها بقي بالقوة نفسها، ولكن هل هذه العاطفة التي تقدمها الأم لأولادها وبهذا الشكل هي عاطفة أم عاصفة تعصف بكل الثوابت التي وضعتها الأمهات الأوائل، عاصفة قد توصل الأبناء والأمهات إلى هوة العقوق ليس عقوق الوالدين فقط وإنما عقوق الذات والروح التي تأمر صاحبها بالأخلاق الصالحة؟ إن المكانة التي أعطاها الله سبحانه وتعالى للأبوين والتي أعطاها الرسول الكريم للأم خصوصاً، من خلال حديثه أمك ثم أمك لا تأتي فقط من جراء عذابات الحمل والولادة، وإنما أيضاً من خلال التفاني لتكوين إنسان صالح يدل سلوكه على مربيه، ولذلك قال الشاعر: الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعباً طيب الأعراق. من المخيف أن نعترف بأن التغيير الذي نتج من الحضارة وصل إلى عاطفة الأمهات وإلى الرسالة التي يحملنها. إن الحب الذي تقدمه الأم مهم، ولكن الأهم هو ما سينتج من هذا الحب، فمن المؤلم أن نرى أولاداً أصحاء من الخارج ملوثين من الداخل بسبب هذا النوع من الحب. في الحضارة الهندية، هناك تمثال لأم هندوسية يمثلونها على أنها طويلة للغاية ولها 10 أذرع، تحمل في كل ذراع سلاحاً لكي تدمر الشر، فهل للأمهات المعاصرات هذا الطول وهذا العلو في عقول ونفوس أبنائهن؟ وهل أذرع الأمهات الآن تمتد حقاً لقتل كل الشر الذي يحوم حولنا وحول أبنائهن؟