على الطريق الصحراوي البري في أبو حدرية، في اتجاه النعيرية في المنطقة الشرقية، توقفت سيارة"جيب"على سطح هضبة وسط الصحراء، فيما تبدو عن بُعد خيام منصوبة ونار مشتعلة، ودلال قهوة، وسيارات من نوع"تويوتا"متوقفة، وحركة تدب في أوصال البر الغافي. سعوديون من مناطق مختلفة، وكويتيون أيضاً بحكم الجيرة وقرب المسافة، نعم هذا هو هدف الوجهة"البر"، وهل لغير البر أن يسجل تاريخ شبه الجزيرة وخطوات الآتين والراحلين من مختلف قبائل شبه الجزيرة العربية العريقة؟ صوت فهد الآتي من غرب السعودية، وفراج من الرياض يهدران وسط البر"يا عبيان جونا ضيوف"، فيما يرد المنادى بلهجة جنوبية"هللة هللة ياهلا بمن جا، يا شاه العامل الهندي شغل الموتور واشعل حطب زيادة"، بينما يسمع الحوار وديع الآتي من القطيف، وفرحان ابن الجوف، وينضمان لفريق"البداوة"ويحيون الآتين بكلمات تمتزج في لهجات البلاد كافة، وأجبرهم عبق الصحراء ورمال البر والشعر والهيل على الاستمتاع بإجازة نهاية أسبوع العمل في البر. صرير الرياح الباردة التي تهب من الشمال تؤجج النار وسط"المنقل"، وتثير شجون الشعراء والشاعرات، نعم فالشاعرات موجودات أيضاً، بمسافة غير بعيدة من الخيام المنصوبة، ومتذوقو ومتذوقات الشعر، وعلى رأسهم الشاعر الجنوبي الشهير عبيان اليامي الذي ارتجل متذكراً موقف حدث له مع أحد الرفاق الغائبين، بينما القهوة تصب في فناجين البداوة. ولا يتوقف عبيان عن الشعر، فبعد كل قصيدة يصيح الحاضرون"زدنا يا عبيان"، وهو لا يكل، وبعد أن فرغ اليامي تحدثوا عن رحلاتهم البرية في الشتاء"نحن هنا منذ يومين منذ نهاية دوام الأربعاء، وعادة ما نجتمع مع المربع والأخوان في البر، ونبقى بين ثلاثة إلى أربعة أيام، ويتراوح عدد المخيمين بين خمسة إلى 20 شخصاً، وقد ننام أحياناً وعددنا سبعة، لنصحو وعددنا يزيد على 15 شخصاً من شعراء ومتذوقي الشعر ومحبي البر، إذ نشعر بالراحة والاستمتاع. درجة الحرارة، بحسب ما يبدو، تكاد تقترب من الصفر، إلا أنهم يتدارون بإشعال الحطب لاتقاء البرد، بينما يندسون تحت"بشوت فروة"ويستندون إلى جلسة"السدو"التراثية التي تعطي انطباعاً بدوياً أصيلاً لا يمكنهم الاستغناء عنه، ويقول فهد:"نشرة الأحوال الجوية ليست صائبة دائماً، وقد يحدث أن نتوقع شدة البرودة بناءً على النشرة الجوية، ونفاجأ بجو ربيعي جميل، كما نفزع أحياناً من شدة البرد في الليالي الجليدية، فنلجأ لإشعال الحطب لتدفئة الخيمة". وماذا عن إعدادات التخييم، يجيب فراج"الخيمة منصوبة وجاهزة غالبية الأوقات، كما أهيئ نفسي دائماً للبر، فالحطب يجب أن يكون متوافراً على الدوام، و"العزبة"كاملة من قهوة وهيل وعويدي الزر أو المسمار، فلدي محفظة كاملة أجمع فيها معدات التخييم، كدلة القهوة، وملقاط الجمر، والبراد وجميع أجزاء الحقيبة". ويتطلب اختيار المكان دقة كبيرة بحسب فرحان"عادة ما نذهب بعيداً في مكان مرتفع عن الأرض، وليس مستوياً، لنكون على مرأى الآتين، وبخاصة"المفحطين"، حتى لا نتعرض للخطر، كما يساعدك المكان المرتفع على مد النظر". وعن الشعر والقصائد وارتجال الأبيات تحت تأثير الشاعرية والرمال يرد عبيان"يحدث أن أرتجل قصيدة من 15 إلى 20 بيتاً، وقد تصل إلى 50، عندما يدهمني سلطان الشعر، وقد تبقى في الذاكرة، أو أقوم بتدوينها في ورقة لئلا تضيع وسط زحام القصائد". توقف عبيان عن الحديث فجأة ليحيي وافدين جُدداً، آمراً العامل الهندي بتهيئة مولد الكهرباء، استعداداً لظلمة الليل والسماء المقمرة."الخيمة منصوبة طوال الشتاء، وإذا طلع الربيع يطيب القنص وجلسات"الطعوس"، ويستأنف"لدى الشباب طيور"شيهان"تبحث عن"الحبارى، حيث متعة الصيد والشواء". واستعدت مجموعة في ركن قريب من زاوية الخيمة لذبح أحد الخراف، متزودين بالمحترفين منهم لفصل"الشواية"، وهي"ما تحويه الذبيحة من قلب وكلى وكبدة، وهذه مكونات الإفطار، وجزء من الذبيحة للشواء، وهي وجبة الغذاء عادة، أما الكبسة فللعشاء". ويقول عبيان:"نأخذ معنا عادة الذبائح من خراف، أو حاشي صغار الجمل للبر، ونذبح ما نريد منها لشواء بعضها، ونطهو الباقي". ولأكلات البر طابع مميز"نطهو بعض الأكلات الجنوبية أحياناً، كما نصنع"الدوح"دائماً، وهو ما يُعرف ب"الجمري"في بعض المناطق، وهي العجينة التي توضع على الجمر لتنضج، ثم تؤكل، وهي أفضل الأكلات في البر". وتتركز حلويات البر في التمر، ترافقها فناجين القهوة"التمر ضروري في البر، تماماً كأهمية لبن الإبل، ولدينا إبل في موقع قريب لأحد الأقرباء، نحلبها ونشرب لبنها طازجاً، إذ لا يوجد رطوبة في البر". الأقرباء الذين ذكرهم عبيان يسكنون البر دائماً، فعلى بعد كيلومترات من مخيم المجموعة، تنتصب خيمة شاسعة المساحة، وتتكون من غرف نوم ومعيشة ومجلس مقلط، وتلفزيون و"دش"، وجميع متطلبات الحياة العصرية، ولكن في خيمة برية، ولا يحد عشق البر شيء، فهم يأتون إليه أيام العطل الأسبوعية والإجازات طوال العام، إذ لا يرتبطون بتوقيت معين، يرعون الشياه والإبل، ويشربون من حليبها. ويستأنف عبيان بشرح وافٍ عن يومياتهم وأحاديثهم"تدور غالبية حكاياتنا عن الإبل، والأسهم، وأسعار السيارات، إضافة إلى شؤوننا الخاصة". وماذا عن مشكلات العمل؟ يجيب"لا نتحدث عن العمل، إلا فيما ندر، فما أن نتجه إلى البر، حتى ننسى العمل تماماً، فنحن نذهب لنتخلص من ضغوط الحياة اليومية والعمل". ويختلف مرتادو الخيمة في تخصصاتهم وأعمالهم، فمنهم الملتحقون بالسلك العسكري، وآخرون يعملون في شركات خاصة أو حكومية أو مصارف ومدرسين، واهتماماتهم أيضاً متعددة، لكنهم يتفقون في عشق البر، ويتنفسون العزوبية، ويقول:"لا ترافقنا زوجاتنا وأطفالنا إلى البر عادة، إلا فيما ندر، فنحن مجموعة عزاب". ويعد صيد الحمام والأوز في البر ب"الشوزن"بالنسبة لوديع الشلاتي 30 سنة الذي يسكن مدينة صفوى في المنطقة الشرقية"متعة لا تجارى". ويقول:"هذه الأنواع من الطيور تكثر في المناطق التي تتوافر فيها المياه"، وتُعد مراقبة إحداها وهي تستعد للطيران"نوعاً من الهواية". ويهوى وديع البر شتاءً"أجيد صيد الطيور ب"الشوزن"كثيراً، وبخاصة أثناء تحليقها، فهنا تكمن الهواية، ونقوم بعدها بعملية الشواء، التي يقوم بها صديقي المتخصص في عملية السلخ وإعداد الشواء". ولكن وديع لا يجيد الصيد بالصقور، مستدركاً"أنا محترف صيد بالسلاح، لطبيعتنا في المنطقة الشرقية". ويستعد ياسر الفياض 28 سنة بطريقته المتمرسة في عملية سلخ الطيور التي اصطادها وديع، ليبدأ الشواء، فيما يعد الباقون الخشب، قبل أن ينضم الجميع للاستماع للقصائد مع مجموعة الخيمة، فهنا الجميع شعراء ومتذوقون. ويوحي منظرهم وهم يتسابقون بركوب الخيل والجمال مسافات طويلة، كأنهم لم يخرجوا من الصحراء إلى المدينة يوماً، فمعظمهم محترفون وإن كان بينهم هواة. ويتولى شقيق عبيان تدريب قليلي الخبرة، لينطلق الجميع في سباق بري، ويعلق عبيان"جميعنا يعرف طرق البر، ونستدل على كل الطرقات، ولا نضيع". وعن مخاوف البر يقول:"لا نخشى شيئاً، إذ تعودنا على ليالي البر وأيامه، وأحياناً نمر أو يمر بنا أشخاص يجهلون الطريق، فنساعدهم، ومنهم من تعطلت بهم السيارة، فنسعفهم، ولكن الخوف أن يتبين لنا لاحقاً أن الأشخاص قد يلحقون بنا مشكلات، كمتعاطي المخدرات مثلاً". وتمثل الحيات والعقارب وهوام الأرض مشكلة لهواة رحلات البر. ويقول اليامي:"الحيات والعقارب أمر اعتدنا عليه، والبر مليء بها، ويصدف أن نلاقي بعضها تحت الحطب، إلا أنها لا تقترب من الخيمة، إذ نقوم برش الديزل على أطراف الخيمة، ما يمنعها من الاقتراب".