ما أن يحل شهر كانون الأول ديسمبر من كل عام، حتى يترقب سكان الساحل الغربي الواقع بين مكةالمكرمة ومنطقتي عسير وجازان، بحذر هطول الأمطار، التي ستتبعها سيول ينتظرونها فرحاً لمزارعهم وخوفاً على أرواحهم. حكاية السيول ليست جديدة على سكان الساحل الغربي، بل أصبحت جزءاً من ثقافتهم، التي يتمنون أن تتحول إلى ذكرى، ويكون حاضرهم أكثر ازدهاراً بتطبيق حلول تحول مآسيهم إلى تجارب يفخرون بها، بأن يحولوا مياه الكوارث التي راح ضحيتها حتى أواخر شباط فبراير الماضي ما يزيد على 20 شخصاً في القنفذة والليث، إلى كنوز تقوم عليها مشاريع كبرى. "تقع محافظة القنفذة عند مصبات عدد من الأودية التي تخترق جبال السروات المحاذية لها، وكانت منذ القدم وحتى الآن عرضة لمياه الأمطار والسيول من هذه الأودية، كنتيجة مباشرة لهطول الأمطار على تلك المرتفعات، وتسببت هذه السيول في إلحاق الكثير من الأضرار بهذه المحافظة، كما أنها تشكل خطراً دائماً على المنشآت العامة والطرق وشبكات الاتصال، إضافة إلى تأثيرها في المباني السكنية". ويشرح مدير الدفاع المدني العقيد علي القفيلي الطبيعة الطبوغرافية لمحافظة القنفذة، وينطبق الحال على الليث، قائلاً:"هي عبارة عن سهل ساحلي ضيق ممتد من الشمال إلى الجنوب محاذ للساحل الشرقي للبحر الأحمر، محصور بين شاطئ البحر الأحمر غرباً ومرتفعات جبلية جبال السروات شرقاً، تخترق هذا السهل مجموعة من الأودية المتجهة من المرتفعات الجبلية الشرقية إلى البحر الأحمر، ويبلغ عددها سبعة أودية". ويمكن وصف سر هذه السيول في جيولوجية المنطقة، التي يبين مدير الدفاع المدني في محافظة القنفذة أنها"مكونة من نوعين من التكوينات الصخرية، متمثلة في المناطق الجبلية المكونة من صخور القاعدة النارية والمتحولة، إضافة إلى طفوحات البازلت الظاهرة في الحرات البركانية الموجودة في المنطقة، وهذه الصخور ذات طبيعة صخرية صلبة لا تنجرف بتأثير المياه الجارية". ويتكون الجزء الآخر من طبيعة المنطقة بحسب القفيلي من"السهول الساحلية، فهي عبارة عن رواسب فتاتية رملية ناعمة غير متماسكة ضعيفة التحمل، تنجرف بسهولة تحت تأثير أي مياه سطحية جارية، ما يؤدي إلى انهيار المنشآت المقامة عليها، كما أنها ذات نفاذية ومسامية عالية تمتص المياه بسرعة وتؤدي إلى حدوث عملية تراص لحبيبات التربة، تنتج منها خلخلة للتربة تؤدي إلى حدوث انخساف وانهيارات أرضية تتسبب بشكل مباشر في الكثير من الكوارث". بتفاصيل تكاد تكون متطابقة، يتحدث مدير الدفاع المدني في محافظة الليث العقيد محمد الغامدي، مبيناً أن"أهم الأودية التي تسيل في المحافظة هي وادي الليث، ووادي الغالة، وواديا الشواق الشمالي والجنوبي، ووادي المرقبان، ويأتي الخطر بسبب وقوع الكثير من القرى على حواف الأودية، أو وجود متنزهين في تلك المناطق". ويركز الغامدي على"عدم استجابة المواطنين للتحذيرات، وهذه مشكلة كبيرة، للأسف حذرناهم أكثر من مرة إما مباشرة أو عبر وسائل إعلامية، ولكن نسبة الاستجابة لم تصل إلى الحد المطلوب، وتنتج من ذلك حوادث يروح ضحيتها أبرياء". يقول الجغرافي الحسين بن حسن:"هذه المنطقة مشابهة لكف اليد من الأعلى أي من ناحية الجبال، تتجمع مياه الأمطار بعد أن تهطل وتنزل مرة واحدة لتندفع بقوة إلى الساحل، ما يتسبب في هدم كل شيء أمامها، وعلى رغم إيجاد حلول موقتة إلا أن التغيرات الطبيعية، وتدخل المزارعين في تحويل مسار السيل ليدخل مزارعهم تسببا في كوارث جديدة مختلفة عن الأعوام الماضية". ويخلص بن حسن إلى أن الأسباب الحالية تتمثل في"عدم الأخذ بتوصيات سابقة شددت على بناء سدود في الأودية الكبيرة، بناء السدود أو العقوم الصغيرة على حواف الأودية بطرق عشوائية، او يمكن وصفها بالأنانية تسبب في تحويل مسار السيول إلى مناطق سكنية، إضافة إلى البناء من دون اذونات حكومية، ما تسبب في تجمعات سكانية في مواقع خطرة". وتفيد الإحصاءات الأخيرة بأن ثلاثة أطفال كانوا بين ضحايا السيول هذا العام، ليصل عدد ضحايا السيول خلال السنوات العشر الأخيرة إلى ما يزيد على 120. الفقر تزدحم الصحف بأخبار الفقر في القنفذة والليث، حتى أن الصورة الذهنية لدى متلقي تلك الأنباء من غير أهل المحافظتين يعتقد بأنها تجمعات بشرية لفقراء فقط، لدرجة أن من يعرف بنفسه انه من تلك الأرض أول سؤال يواجهه مع قليل من التهذيب من الطرف الآخر، هل فعلاً أنكم تعيشون تحت خط الفقر؟ وتتدحرج جملة من الأسئلة التي يعتقد من يستقبلها بأنه مقبل من"كوكب آخر". وضع الفقر في القنفذة والليث يمكن وصفه بالمكشوف فما أن تخرج عن أسوار المدن الرئيسية حتى تجد الفقراء في قراهم المترامية على أطراف الأودية، ولكن ليس بالمستوى المأسوي الذي كانوا عليه سابقاً، إذ أسهمت بعض برامج الضمان الاجتماعي في التقليل من المعاناة، ولكن لم تمحها. القنفذة التي يساندها مكتب الضمان الاجتماعي، فيما تتزايد المؤسسات الخيرية، إلا أنها لم تستطع احتواء المشكلة. أولى تلك المؤسسات"جمعية البر الخيرية"، التي يبين مديرها محمد بامهدي وضع الفقراء في القنفذة قائلاً:"هناك اسر كثيرة تعاني من الفقر، فمثلاً نحن نغطي ما يزيد على ألف أسرة، ونكفل 650 يتيماً، ونقدم العلاج لمرضى الفشل الكلوي، وبرامج مساندة أهمها الدورات التدريبية في الحاسب الآلي واللغة الانكليزية لأبناء وبنات الأسر الفقيرة كي يحصلوا على فرص عمل. بينما تتحمل أربع مؤسسات خيرية، بقية العائلات في قرى ومراكز المحافظة". ويرى بامهدي أن هناك أسباباً اجتماعية مهمة تسببت في تفشي الفقر أهمها:"عدم وجود شركات كبرى تحتوي الأعداد الكبيرة من راغبي العمل، وقلة فرص القطاع العام، إضافة إلى التصحر الذي أصاب المناطق الزراعية خلال السنوات الماضية، وعدم إكمال الكثير من الشباب دراستهم، واتجاه فئة أخرى إلى الدراسة في اختصاصات لا تحتاجها سوق العمل، إضافة إلى المرضى الفقراء مثل المعوقين وأصحاب العاهات". ويعتقد بامهدي أن"عدم توافر معهد مهني وكلية تقنية في وقت مبكر، أسهم في تفاقم المشكلة التي تفشت بشكل كبير في محافظة القنفذة، وعلى رغم أن محافظة الليث تشابه القنفذة في كل شيء، الا انها حظيت بمعهد مهني ساعد في تخريج مجموعة كبيرة وجدت فرص عمل، خصوصاً في مشاريع الاستزراع السمكي". شباب القنفذة لم يقفوا مكتوفي الأيدي تجاه هذه المشكلة وغيرها، متجهين إلى تشكيل تجمع يهدف إلى التعريف بمشكلات محافظتهم سموه"لأجل القنفذة"، تقف على تنظيمه مجموعة من الشبان أبرزهم محمد بن محفوظ الذي تحدث عن الفقر قائلاً:"لدينا اسر تعيش في مستويات مخيفة، هناك اسر تمر أيام لا نقول انه لا يوجد طعام في منازلهم، ولكنه طعام بسيط، واكبر مشكلة تواجههم هي البيوت المناسبة". ويرى ابن محفوظ أن"وزارة الشؤون الاجتماعية أطلقت برامج، أسهمت في التقليل من المشكلة، إضافة إلى ان الجمعيات الخيرية تساعد ولكن نحن بحاجة إلى حلول اكبر، في مناطق مثل البنان، سبت الجارة، ثلثاء بني عيسى، خميس حرب وقرى في ثلثاء يبه، ووادي حلي". في الليث التي توجد بها جمعية خيرية يتيمة تديرها مجموعة من الشبان الساعين إلى تقديم خدمة اجتماعية حقيقية بحسبهم، إذ يقول مدير جمعية البر فيها هادي محمد الطميحي:"الفقر في الليث منتشر لأسباب كثيرة أهمها: كبر مساحة المحافظة، اعتماد السكان على تربية المواشي، تركيز الاهتمام على جدةومكة القريبتين منها، التمسك بالمساكن الريفية، عدم الرغبة في الانتقال، ضعف المستوى التعليمي لأرباب الأسر". ولا يتوقف الطميحي عن سرد الأسباب مضيفاً:"كثرة الأيتام بسبب الحوادث التي يتعرض لها سكان المحافظة على الطريق الساحلي، عدم القدرة على تملك المنازل، ضعف المنطقة من الناحية التجارية والاقتصادية، تدني رواتب أرباب الأسر، عزوف الشباب عن العمل بسبب ضعف التحصيل الدراسي". تسهم الجمعية التي يعمل بها الطميحي في التقليل من زيادة الجراح، شارحاً أنشطتها:"نقدم إعانات الى 4983 أسرة في مدينة الليث منهم 473 مطلقة وأرملة، و317 مريضاً ومعوقاً، و3045 أسرة أخرى في القرى والمراكز التابعة للمحافظة". يقول أهل القنفذة إن الليث أوفر منهم حظاً بعد أن نفذت مشاريع إسكان مثل مشروع مؤسسة الملك عبدالله لوالديه، التي أنشأت مجمعاً سكنياً في قرية الغالة، ومشروع اللجنة النسائية في منطقة مكةالمكرمة في قرية طفيل. ويعترف الصحافي المهتم بشؤون محافظة الليث حامد الاقبالي بأنها أسهمت في حل جزء من المشكلة مبيناً:"المشروعان مهمان ولكن لم يحلا الا 10 في المئة من إجمالي المشكلة، هناك 250 قرية في الليث يسكنها فقراء، وهناك كثير يسكنون في بيوت من الصفيح". ويضيف الاقبالي قائلاً:"هناك قرى مثل منسية وبجالة وديرين وكدم والفروخية وحقال، بها فقراء في أوضاع مأسوية أسهمت برامج الضمان الاجتماعي في التقليل من مشكلاتهم، ولكنهم مازالوا يحتاجون إلى الكثير، في ظل عدم وجود سوى جمعية خيرية واحدة تقول إنها مسؤولة عن الفقراء داخل المدنية فقط، وترفض دعم الفقراء في القرى". البطالة البطالة هي الوجه الآخر للفقر، فلن تحتاج إلى زيارة فروع وزارة العمل في محافظتي القنفذة والليث لتعرف أعداد العاطلين، الأمر لا يحتاج إلا لزيارة إلى المقاهي، او تجمعات الشبان على الأرصفة في ملاعب كرة القدم. عبدالعزيز حسن بن إبراهيم 24 عاماً تخرج من معهد الإدارة العامة اختصاص مبرمج حاسب آلي، يتجنب الخروج كثيراً يحكي معاناته:"تخيل منذ ثلاثة أعوام تخرجت ولم أجد عملاً ولا يمكنني السفر بحثاً عن عمل، لان عائلتي لا تقدر أن تستغني عني، أنا مضطر إما للتسكع في الشوارع أو البقاء في المنزل والبحث نهاراً عن عمل". نبرة حديث عبدالعزيز تكفي للتعريف بمعاناته، يكمل:"لا توجد شركة أو قطاع حكومي يقبل باختصاصي، حاولت من دون فائدة وأنا مضطر للعمل على بند عامل براتب ألف ريال، في وظيفة مكتبية اعتقد انني سأعمل بها وأنسى فكرة البرمجة وشاشة الكومبيوتر". هنا يعود ابن محفوظ للحديث:"مشكلة البطالة تفشت في المحافظة بشكل كبير، وأصبحت تطاول المسألة الأمنية، في وقت قلت فيه أنشطة النادي الوحيد في المحافظة المعتمد من الرئاسة العامة لرعاية الشباب، ونحن وضعنا هذه المشكلة نصب أعيننا ونحتاج إلى حلول حقيقية". ويكشف ابن محفوظ عن هجرة جماعية لشبان من المحافظة:"هناك مئات الشبان يسافرون إلى جدةومكةالمكرمة والرياض والمنطقة الشرقية بحثاً عن عمل، ولا احد يلومهم، اعتقد أن ندرة الفرص وعدم وجود شركات، وحتى إن توافرت فمعظمها تكون وظيفة حارس امن، براتب لا يتجاوز ألف ريال، لا تكفي حتى للسيارة التي تقله من قريته إلى تبعد عشرات الكيلومترات عن المدينة". مشيراً إلى ميزة يمكن استغلالها في القنفذة:"لا يوجد هنا عيب اجتماعي من الوظائف البسيطة، ولكن المطلوب أن يكون راتباً مجزي، وأماناً وظيفياً، واستغرب عدم توافر فرص عمل في منطقة يرضى شبانها بالعمل برواتب اقل من المدن شرط أن يكونوا قريبين من أسرهم". في الليث التي داوت بعض جراحها عبر مجموعة من المشاريع، إلا إنها مازالت تعاني، يعود الصحافي حامد الاقبالي ويقول:"تخيل محافظة يوجد بها ما يقارب نصف مليون نسمة لا يوجد بها فرع جامعة أو حتى كلية، ماذا سيحدث، المستوى الثقافي للأسر متدن، ولذلك كثير من أبنائها يتوقفون عند مراحل دراسية معينة". ويكمل الاقبالي الذي يتحدث بحماسة عن محافظته:"مشروع شركة الروبيان احتوى كمية كبيرة من الشبان، ولكن هناك بقية كثيرة تبحث عن فرص عمل في ظل محدودية فرص العمل في القطاع الحكومي، واكبر مشكلة يواجهها الشبان عدم ثقة رجال الأعمال بهم في المؤسسات الصغيرة، لان الكبيرة غير موجدة أصلاً". حامد أكثر ما يؤلمه الحديث عن انتشار الجريمة التي يصفها قائلاً:"بصراحة شوهت وجه الليث، خصوصاً كثرة السرقات في ظل عدم تحرك الجهات الأمنية بشكل كامل لحل المشكلة، التي من وجهة نظري يقف خلفها المجتمع بأكمله، إذ إن حل المشكلة يحمل أبعاداً متعددة، وليست وحدها فهناك المخدرات، خصوصاً في قريتي غميقة وطفيل".