يتلهف قراء كثر لرصد حياة الكاتب العارمة، ومعرفة ملمح عن الزوايا الخافية حد التماس بها، ومشكلاتها إن سنحت الفرصة. وبما أن الروائي أحمد الدويحي شفيف في حياته الخاصة والعامة، فلن يجد الحريصون أفضل من كتاباته وحواراته للتعرف على شخصيته، وأمام زحفه وحشده الروائي نجحنا في اقتناص وقت مستقطع، حال تهيؤه لكتابة رواية"الآخرة"، لنقف سوياً على ما أنجزه من مشروعه وما تبقى، ولم يخذلنا وهو يفرد لنا مساحة من صراحة الإجابات لتصافحكم. "الحياة"التقت الدويحي على هامش ملتقى الرواية في الباحة، فكان هذا الحوار: بماذا تفسر اندفاعك للكتابة الروائية المتلاحقة، هل هو سباق مع الزمن؟ مع الآخر؟ مع الذات؟ مع الموت؟ أم أنها متنفسك الوحيد والأوحد؟ - لا بد للكتابة من محرّض، والكتابة الروائية على وجه الخصوص لا تكون بالضرورة إلا عالماً من الخيال موازياً لعالم من الواقع، وتكتب الرواية إذا توافرت لها حرية الفضاء، بإعتبارها فناً يعنى بالتراكم والتعددية والشمولية. أنا أعيش في أواخر خريف العقد السادس، وليس بغريب التدفق الكتابي في هذه السن. ولتعلم بأن كُتاباً كُثراً في العالم الروائي بدأوا الكتابة الروائية بعد سن الأربعين، منهم ماركيز، ونذكر أن كاتباً شهيراً في العالم العربي كمحمد شكري، فك أمية القراءة والكتابة بعد الأربعين، وبدأ الكتابة الروائية بعد ما تعلم القراءة، وهنا يكون الكاتب الروائي اكتسب النضج والمهارة، ووعى أهمية عمله وخصوصيته، وشكّل عالمه الروائي، وأصبحت الكتابة الروائية عنده عالماً مستقلاً، وقد كتبت رواية"ريحانة"في زمن مختلف، وصدرت في التسعينات في زمن مواجهة حركة الحداثة، وقبلها كانت مجموعة"البديل"القصصية واجهت رفض طباعتها في الأندية الأدبية، وصنفت نصاً سريالياً متمرداً على الواقع الكتابي والحياتي معاً، ومنعت لأن السريالية في نظر رقيب أحد تلك الأندية، فن سريالي نشأ في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كان يرى الفنانون الجثث في الشوارع، ولا يستطيعون التعبير إلا بهذه الطريقة، وكنت أقول: إن دور الفنان يشير بما يمتلك من حساسية إلى مكامن الوجع، فلا يستطيع أن يكون في مكان الآخرين، لأن لكل عالمه، وليدع له الآخرون حرية تشكيل عالمه برؤيته، ليأتي من مكونات ممتحنة في جوهر الروح. كيف ترى التحولات الاجتماعية وتأثيرها في كتابتك ورواياتك؟ - لا أظن أنني كاتب اجتماعي بالمعنى الحرفي للسؤال، قد يتكئ نص ما على خلفية مرجعية مجتمعية. لكنه بالتأكيد لا يعنى بالتحولات كما تعنى به نصوص كثيرة، وقد نستحضر معاً هنا نصوص حبيبنا وصديقنا الجنوبي الراحل عبدالعزيز مشري، فقد جعل هذا المبدع الكبير الكتابة الواقعية تتماس مع الحياة، أنا أشتغل علي ضفيرة أخرى ليست ببعيدة، وتختلف في التكوين والنظرة وزاوية التناول وطريقته. وقع القنابل على بغداد الرشيد تنعى"الإنسانية"في رواياتك من خلال أزمات الإنسان، هل الإنسانية في خطر؟ وكيف يمكن تفاديه؟ - كان يجب أن ننعاها صباحاً ومساء، فالشعوب العربية منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي أبحرت مع خيارات خاسرة كل يوم، فتتكشف الآن فداحة ما تدفعه هذه الأمة، فالشعوب التي رهنت خياراتها في لحظة ارتخاء تاريخي، تركت المراهنة على الزمن وحده، لتخرج من عباءة الجهل والفقر والاحتلال والتبعية، وسعت ملهوفة خلف فتات الحضارة الغربية. وكتبت الجزء الأول من ثلاثية"المكتوب مرة أخرى"، وأصدرته، ووضعت على الغلاف"الحدود"رقم واحد، وكأنني رأيت بوضوح ما حدث في ما بعد، وما زال يحدث، وسيحدث غداً، فكتبتني أحداث الروايتين التاليتين على وقع القنابل على بغداد الرشيد وحمورابي وصدام حسين. علاقتك بالمرأة في رواياتك علاقة تصادمية، من يتعمد ذلك أنت أم هي؟ هذا الكائن يمثل الحياة بتلون وجوهها، وإغراء المرأة ممتد منذ زمن أمنا حواء، والمرأة في النص الروائي تجسد هذا التلون، وهي في نصي إشكالية حقيقية، فأنا وعيت طفولتي الباكرة جداً في جو قروي، وكل نساء القرية كن أمهاتي، تتركني أمي لتذهب إلى الحقل فتتكفل القريبة بي وتلقمني ثديها، ونادراً ما أجد في القرية أماً لم ترضعني، أظن أن عاطفة جياشة لم تبرح ذاكرة الشعور بتمييز أمي الحقيقية، والعالم القروي له إنسانه، وللمدينة إنسانها، كتبت نصوص الأنثى من هذين العالمين، وأظن أن المسألة أخذت شكل التدرج الزمني والنفسي، وحاجة كل نص لأنثى محددة. رحلتي الباكرة من القرية أوجدت شرخاً كبيراً ومتغيرات في أوجه كثيرة، ولمست هذا على وجه الدقة في علاقتي بالمرأة الجديدة، حينما فقدت حرية حركة الحقول وغناء الأعراس، وظهرت الجديدة في عيني برميلاً أسود يتحرك، ويصبح الكلام همساً في الشوارع الخلفية بسرية، وبصراحة فإنني لا أستطيع أن أقف عند امرأة بذاتها في نصوصي الروائية والقصصية. واجهت مقولات جاهزة وظالمة يرى البعض أن لا ثوابت دائمة لعالمك الروائي، ما تعليقك؟ - غريبة رؤية هؤلاء، ودعني أكن معك أكثر صراحة، فإنهم يرون في نصي أشياء كثيرة لا تعجبهم. فالغموض والغرائبية والتمرد على المألوف تصبح في نظرهم خللاً في البناء السردي، وأنا تعودت على مثل هذه التخريجات، وقد واجهت تلك المقولات الجاهزة، والظالمة في الوقت نفسه بعد صدور رواية"ريحانة". هل تعرف أن هناك من اتهمني بشراء هذه الرواية؟! طبعاً هذا من منظورهم، بعد ذلك لم أعد ألتفت لكل ما يكتب أو يقال، والبعض يريد أن تكتب بمقاسات محددة يرونها هم، ويريدون أن تكون ضميرهم الكتابي، وويلك إذا خرجت من عباءتهم، وأنا ضد تحميل النص الروائي خطابات مضمرة وجاهزة، وأعتقد أنك تقصد الحال السردية، والتنقل من حدث إلى آخر. الرواية فن للمتعة، وهم حقيقي، يتمثل الحياة ويجسد نبض الناس بصدق، فن شمولي يرى كل الشرائح، وتتلون في فضائه كل الفنون، لتصبح جزءًا من جسد الرواية، كالأساطير والشعر والتاريخ والقصة والفولكلور... إلخ، وتبقى قمة الفن في تمسكه ببنائه الداخلي في تعريف لينتشه. ماذا"فوتت"عليك جرأتك، ولِمَ لا تجامل؟ - معك حق، أشعر أحياناً بأنني"جلف"و"غبي"، أبداً ما سعيت إلى الأبواب، بل أوصدها خلفي وأذهب، غادرت ولست آسفاً مواقع وأماكن مهمة، مررت بها في محطات الحياة، غادرتها بسبب غبائي وصراحتي، وليس بسبب جرأتي المزعومة، وأريد أن أكون أنا بلا تزييف ولا رتوش، الحرية والإبداع وجهان للحياة. كنت أظنني مشرفاً في مرحلة على صفحات يومية، وأكتشف أن فوقي مشرفين، يتسقطون هفواتي فأصرخ ملء فمي غيظاً. والمواجهة طريق مليء بالشوك والشكوك والكمائن، وعشت بتلقائيتي فوجدتها مرآة صادقة، تعكس وجوهاً متعددةً لدنة ومراوغة وانتهازية، وبلا شك فنقيضها موجود. ماذا بوسع المثقف أن يقدم لمجتمع مأزوم؟ - المثقف الآن مهمش ومُقْصَى، ولا يجد من يدافع عن حقوقه، أمس وصلتني رسالة معممة بين المثقفين، تتحدث عن أديب مهدد بدخول السجن، بسبب تراكم الديون عليه، فالمثقف هو المخنوق وبحاجة إلى حل أزماته أولاً، فلا أعرف أديباً عربياً يعيش من ريع نتاجه الأدبي. وفي مشهدنا الثقافي نحن نستهلك في مهن أخرى، ليصرف الأديب على طباعة نتاجه من دخله المحدود، وما زال وقع كلمات رسالة للمبدع عبدالعزيز مشري، كتبها لجمعية الثقافة والفنون يرن في أذني، يستغرب ضآلة ما صرف له، مكافأة عن طباعة نص وحيد له من أعماله الكثيرة، ويسأل هل هي قيمة الأحبار والورق، أما دمه وسهره ونزف فكره وأعصابه، فليس لها ثمن، ونعرف جميعاً حينها الظرف الإنساني والصحي الذي كان يعيشه الراحل، وتعرف أنت أن أعماله الكاملة يتولى أصدقاؤه، وبالذات الشاعر الكبير علي الدميني طباعتها وتوزيعها. فالأديب والمثقف العربي الحر جزء من الأزمة، فالثقافة موجهة في كل البلاد العربية، إذ لم تعد للمثقف تلك القيمة التي يصونها المجتمع ويقدرها. فصوت المثقف، يجد في مواجهته جيشاً من المنتفعين، وسيظل الفن الحقيقي والصادق حياً في نبض الشعوب، فالفنان بحساسيته يقرأ ملامح واقع ما، وأظن أن فعله الحقيقي ينتهي، حينما يضع بصمته على مكامن الوجع وإتقان عمله، ويدع المجتمع المثقف يعالج كل الخلل من واقع تخصصه. تجنح نحو الفوضوية واللامبالاة، هل من جمالية في الفن العبثي؟ - وهل الواقع عقلاني؟ كثيرون وقفوا على حدود الشكل الفني، ولم يستبطنوا كلام النص، ويسبروا أغواره. نقرأ حالة المذهب الفني، ولا نقرأ حالة النص، نداري عجزنا بحاجز الغموض، ونتمادى كثيراً في الحديث عن غاية الفن. وأنا كاتب يعشق التجريب، لأنه يكشف لي مناطق مجهولة ومظلمة في النفس البشرية، وهذا لا يتم إلا بالأسئلة الكاشفة حد التناهي، ولست معنياً بتصنيف ما أكتب بطبيعة الحال، كما لست معنياً بالعودة إلى مرحلة نشوء الاتجاهات الذاتية في القرن العشرين لدى الكتاب في الغرب، ومفاهيم التجريد واللامعقول والرمزية المغرقة والغموض، والنزوع إلى تخطي الواقع، والتطلع إلى حرية التعبير وانطلاق اللاوعي. كنت من المتحمسين لمشروع نادي القصة، هل تبخر الحلم أم أجهض؟ - بل نسف ليس كمشروع، بل ككيان كان قائماً. كنا نحلم بأن عصر المؤسسات الثقافية القائمة على الانتخابات مقبل، فإذا بنا نفقد مؤسسة"نادي القصة السعودي"، ويصدر قرار وزاري بدمجه في نادي الرياض الأدبي. نادي القصة كان بيت كُتّاب السرد في كل مدن وقرى الوطن، وليس في الرياض وحدها، كل نادٍ في السعودية بإمكانه أن يشكّل جماعة سردية في مدينة، ونادي الرياض الأدبي به جماعة السرد، وغالباً تكون هذه الجماعات ورش عمل تحسب لنشاط النادي. لأن نادي القصة كان لكل كُتّاب السرد ونقاده في الوطن، وهناك كيان قائم من دراسات نقدية ونصوص وملفات وببلوغرافيا، كان يعدها خالد اليوسف لكل الكتاب، والرجل وعدد من كتاب السرد، يعرفون حجم الخسارة لكُتّاب هذا الفن. كتبنا إلى وزير الثقافة وأنا منهم، بالإبقاء على نادي القصة ككيان مستقل، وما زال الوضع غامضاً، وقناعتي الشخصية أنه لا يخدم الفن إلا أهله. فالأندية توظف الجماعات كديكور لنشاطاتها، وأعضاؤها نائمون في بيوتهم ما دام الصرف قائماً، ولو توافرت لنادي القصة استقلاليته، لوفر الوقت، والمعاناة، وحل كثيراً من الإشكالات. ما أثر الزخم الروائي السعودي في القارئ؟ - الطفرة الروائية نتاج طبيعي، أنا أظن أن هذه الطفرة، وحركة الحداثة الشعرية، كانتا أصدق ما جاء في مشهدنا الثقافي. فحركة الحداثة كانت ضد السائد والراكد، وجاءت الرواية لتكشف المسكوت عنه، وتصل إلى الشرائح المهمشة والمقصية، وحركة السرد نشطة وفاعلة. فالقصة القصيرة صاحبت سيد الفنون الشعر، ونافسته في حقبة الثمانينات والتسعينات، ووصل كتاب السرد إلى المئات، ولم يحدث إلى الآن قراءة المنجز وفرزه، والاستفادة منه، وأصبح ذلك التراكم في ذمة التاريخ وهنا الخطورة. والرواية فن مختلف وليست مشروعاً فردياً، وما يحدث الآن أن أي كتابة تتحول إلى رواية، ولا بأس أن تكتب بأسماء مستعارة، وهناك شعراء وليسوا كتاب قصة جاءوا للرواية. لأن الرواية حققت شرطها كفن مجتمعي، والخوف من هذا الهطول، ونوافذ النشر المفتوحة في الخارج، وصمت المجتمع الثقافي وتواطئه، أن يسطح كثيراً من التباشير، ويعيد أخرى إلى مرجعيات ضيقة، والجيل الجديد الذي يسن أدواته من الكتاب الروائيين، يتنازلون قليلاً عن أوجاعنا وجراحنا، لنصفع كثيراً من تشوهاتنا. حقاً تغيرت كثير من المعايير، وليس من جيل يحل مكان آخر. والسرد فن أجيال يبنى بالتراكم، وحضور الكاتبة الروائية في مشهدنا، كان مطلباً وكان منتظراً، وبيننا قامة كبيرة كرجاء عالم، وحينما جاءت رجاء الصانع نعرف ماذا حدث، فالخلل قد يكون في القارئ وفي المجتمع المزدوج والمتناقض، وما حضور الكاتبة الروائية بكثافة إلا دلالة وليس ظاهرة، فالفنون تتداول الحضور، وحتماً سنرى جيلاً نقدياً جديداً، يصاحب هذا النتاج، والحكم باكراً. من يدهشك روائياً، ومن يدهش برواياتك؟ - قرأت بكثافة في الرواية العربية والعالمية. قرأت كل ما وقعت عيني عليه في سن باكر، روائيون كثر أحببتهم في أزمنة متباعدة، وقلة هي الروايات التي أعود لقراءتها، تكفيني معرفة التجربة والعالم الروائي، وهناك كتاب أبحث عن جديد نتاجهم، وقراءته للمتعة، أحببت بهاء طاهر لجماله، واليوناني كازانتزاكي لبنائه الفني، ودستوفسكي لغزارته وعمقه، وحنا مينا في خصوصيته، ومنيف، وألن روب جريبيه، والكوني، وبن غلون، ودكنز، وبورخيس، وجان جونيه. ولست على علم بمن تدهشه رواياتي.