تنتهي علاقة المزارع في محافظة الأحساء بالنخلة التي رعاها لسنين، وربطت بينهما مجموعة كبيرة من المشاعر التي تقترب إلى حدود عدم التصديق عند من يجهلون مكانة النخلة في الأحساء، إذ يرون فيها امتداداً طبيعياً لعشقه الدائم للطبيعة، خلال فصل الشتاء على وجه التحديد، وهو الوقت المناسب ل"التجذيب"، وهي عملية تواكب قلع النخيل المُسنة، أو التي عانت كثيراً من العقم، وأيضاً تلك التي لا يمكن الاستفادة منها. وتبدأ العملية بقلع النخلة في وقت مبكر، إذ يتم التخلص من جميع أجزائها، عدا الجزء العلوي والأساس من النخلة، الذي يُعرف محلياً ب"المخ"، وهو الموضع الذي تنبت فيه"العذوق"، و"السعف"، إذ سيصبح فيما بعد وجبة شعبية من نوع خاص، يتسابق الكثيرون للحصول عليها، ولو بثمن مرتفع، لأن"الجذب"، وهو قطع بيضاء ناعمة، تتميز بطعم سكري خفيف، وأكله يمنح المتعة. ويحرص المزارعون على المتاجرة بهذه الوجبة الغنية بالسكريات وعناصر غذائية أخرى، ذات أهمية غذائية خاصة، وتحديداً في فصل الشتاء. وبلغ أعلى سعر وصلت إليه"الجذبة"، 250 ريالاً، مع توقع أسعار أعلى في الأيام المقبلة، التي ترتبط وبصورة رئيسة بنوع النخلة وعمرها. ويوضح المزارع عيسى الحويمل أن عملية استخراج الجذب"تبدأ بمجهود كبير، يكلل في النهاية بوجبة غذائية شهية، إذ يبدأ العمل على قلع النخلة من جذورها، وفصل رأسها من باقي هيكلها، ونركز في الأساس على الرأس، الذي يحوي لب النخلة وخلاصتها، وفيه تتجمع أنواع مختلفة من المواد الغذائية المفيدة". ويحرص المزارعون على"تجذيب"النخلة في الشتاء، لأن"الطعم يكون مميزاً، أما لو اضطررنا إلى قلعها في الصيف، فإننا لا نستفيد من الجذب، لأن جزءاً كبيراً منه يكون طعمه مراً، وغير مستساغ"بحسب قول الحويمل. وشهدت الطريق الزراعية في الأحساء خلال الأيام الماضية، نشاطاً لافتاً للمزارعين الذين يعرضون أنواعاً مختلفة من"الجذب"، من خلال طاولات عرض خاصة، تستوقف المارة، لتبدأ عملية التفاوض، ودائماً ما يخضع الزبون للسعر الذي يحدده البائع، الذي يرفض التنازل عن السعر الذي وضعه. ويقول المزارع طاهر الحسين:"يستغرب الكثيرون من التشديد على وضع الأسعار، وعدم التنازل عنها، ولكنهم لا يعلمون أن المزارع حين يقف أمام رأس نخلته، وهو معرى هكذا، يُصاب بأكثر المواقف ألماً، لأنهما كبرا معاً، إلى جانب صلابة رأس المزارعين، وتمسكهم بما يريدون". واعتبر يوم التجذيب"يوماً مميزاً، إذ ينشر خبره لدى الأصدقاء والجيران قبل يومين من موعده، حتى يمكنهم حضور المراسم، التي لا تخل من البهجة والغرابة في آن، وكل شخص يقدم مساعدته بغية الحصول على قطعة أكبر من الجذب، ولا تزال تلك الطقوس لم تتغير، إذ يبدأ الفريق بإسقاط شموخ النخلة، من خلال سحبها بحبل كبير بعد ضربها ضربات عدة في لحائها". وتجري عملية التجذيب وسط أهازيج يرددها الفريق، لإشعال الحماس والتشجيع، ومنها"يا الله يا كريم... على بابك يا كريم... ما خاب طلابك... يا كريم..."، مع تهليلات وتسابيح، ووسط جوٍ من المرح الجميل، الذي يختم باستخراج لب رأس النخلة الأبيض اللذيذ، الذي يتمتع، إلى جانب طعمه، بالسلاسة والرقة والخفة". ويحرص مزارعون على التجذيب داخل منازلهم، وفي حضور أفراد العائلة، لأنهم يعدونها من المناسبات العائلية الخاصة، التي تجمعهم حول طقوس التجذيب، ويبتدئها الأطفال بالتقاط كل ما يسقط من أجزاء الجذب في لهفة، حتى تصل ذروة الانتظار إلى توزيع قطع بيضاء على أشكال مختلفة، وبطعم السكر الخفيف. وتحرص العائلات على أن تكون هذه الوجبة عنواناً للترابط الأسري والاجتماعي، إذ يتم توزيع قطع صغيرة منها على الجيران والأصدقاء، فيما"تُترك قطع صغيرة داخل ليف النخلة إلى وقت اشتداد البرد، لتكون غذاءً للأطفال، ومانحاً للدفء"بحسب ما نقل الحسي