يعد شهر شباط فبراير 2007، محطة جديدة في العلاقات بين الرياضوموسكو، فقد استقبلت المملكة العربية السعودية الرئيس فلاديمير بوتين في زيارة، كانت هي الأخرى زيارة تاريخية. ولم تكن لتتم هذه الزيارة لولا التقدم الكبير الذي شهدته العلاقات الثنائية، وكذلك القناعة التي تحملها القيادة الروسية بأهمية المملكة وضرورة تطوير العلاقة معها. إن هذا الاهتمام الروسي بالمملكة يعد مثالاً حياً على التحول الذي شهدته السياسة الخارجية الروسية، سواء من حيث المبادئ التي تستند إليها أم الدوافع التي تحركها أو حتى آلية صناعتها. لقد أصبحت"البراغماتية - العملية"العلامة المميزة للسياسة الخارجية الراهنة للدولة الروسية. فالاعتبار الأول أصبح للمصالح القومية، سواء كانت إستراتيجية أم اقتصادية، تجارية أم ديبلوماسية. لم تعد الايديولوجيا محركاً للسلوك الروسي، لذلك وجدت الرياض مكانتها التي تستحقها في الفكر الاستراتيجي الروسي. كثير من الملفات المهمة لروسيا تصعب معالجتها سوى من خلال اتصال مباشر في الرياض. لنأخذ، على سبيل المثال، علاقة روسيا الاتحادية المضطربة مع العالم الإسلامي أثناء عقد التسعينات نتيجة حرب الشيشان. فقد أدركت القيادة الروسية بنصيحة من الخبراء الروس أن المخرج من هذه العلاقة المضطربة يتطلب مد الجسور مع العالم الإسلامي، ومن ذلك التواصل مع أهم مؤسساته، وهي منظمة المؤتمر الإسلامي. لذلك سعت موسكو إلى الحصول على صفة مراقب في المنظمة ولم يكن ذلك متصوراً إطلاقاً من دون قبول المملكة ودعمها، بسبب مكانتها الريادية في العالم الإسلامي. بل إن قضية الشيشان، والتي شكلت أهم تحد للدولة الروسية الجديدة وهددت استقرارها، كانت سبباً في الحديث عن احتمالات تفكك روسيا الاتحادية. إذ لم يكن ممكناً معالجة أزمة الشيشان - رغم اللجوء المفرط للقوة المسلحة - من دون موقف سعودي حاسم عبّر عنه الملك عبدالله في موسكو في 2003 بأن الشيشان شأن داخلي واستقباله للرئيس الشيشاني الراحل أحمد قادروف. وكان ذلك بمثابة لمسة رمزية أكسبته شرعية بين الكثير من أبناء الشيشان الذين تحول موقفهم منه نتيجة لقائه مع خادم الحرمين الشريفين. ولقد تأكد هذا الدعم من جديد من خلال مشاركه ابنه رمضان الذي خلفه في زعامة الشيشان في مراسم غسل الكعبة المشرفة. ذلك التطور لم يكن عادياً في الشيشان، حيث الإسلام والارتباط بالأراضي المقدسة يعد علامة فارقة في شخصية أبنائه القومية. أهمية العلاقات مع المملكة تتجاوز القيم الرمزية المهمة إلى مصالح مادية للاقتصاد الروسي الذي استطاع في عهد الرئيس بوتين أن يحقق معدلات نمو عالية مقارنة بالتسعينات التي عاشت روسيا خلالها حال انهيار كامل. ويبرز هذا البعد من خلال تركيبة الوفود الزائرة، وكان لافتاً للنظر اصطحاب الرئيس بوتين خلال زيارته الرياض لثلاث قيادات اقتصادية مهمة تشرف على أكبر الشركات والقطاعات الروسية وهم رئيس شركة لوك أويل النفطية، ورئيس شركة غاز بروم، ورئيس شركة روس أوبورون اسكبورت للصناعات العسكرية. استطاعت الشركات الروسية، برغبة سعودية بالطبع، أن تنفذ إلى السوق السعودية في مجالات مهمة كالتنقيب عن الغاز ومد خطوط الأنابيب، وتطمح كذلك أن تشارك في مشاريع عملاقة كمشروع سكك الحديد، والاستثمارات في قطاع الكهرباء، وغيرها من مشاريع ستضع ركيزة تجارية واقتصادية صلبة تستند إليها العلاقات السياسية الآخذة في التطور السريع. بعد هجمات أيلول سبتمبر 2001 وانعكاساتها على العلاقات السعودية - الأميركية، أغرق الروس في تفاؤل مفرط بأن رؤوس الأموال السعودية ستنتقل إلى روسيا كمصدر بديل وآمن بعيداً عن التهديد بتجميد الأرصدة. لم يتحقق ذلك بالطبع، ولم تصل الأموال السعودية لبنوكها، كما أن التبادل التجاري بقي محدوداً كما أشرنا سابقاً، إلا أن ذلك لا يعني نهاية حلم الطفرة في العلاقات الاقتصادية بين موسكووالرياض. فمعلوم أن رأس المال حذر وحساباته دقيقة ومتطلباته صعبة، وليس مستغرباً أن يتأخر عن مسيرة التطور في الجوانب السياسية للعلاقة. من جهة أخرى، فقد شهد الجانب الاقتصادي للعلاقة تطوراً إيجابياً على المستوى الذهني، إذ اختفى عائق محتمل لتطور هذه العلاقة، وتمثل ذلك في التحول في قناعات القيادة الروسية بأن حقول النفط الروسية ستكون بديلاً عن حقل الغوار العملاق ورفاقه، والتي تعد أكثر الحقول أهمية للاقتصاد العالمي. بعد هجمات سبتمبر ونتيجة التوتر في العلاقات بين الرياضوواشنطن قدمت موسكو نفسها بديلاً عن حقول النفط التي قد تسقط في أيدي"الوهابين المتطرفين"، وتبنت واشنطن هذا الطرح، وبدأ الحديث عن شراكة طاقة بين روسيا والغرب بشكل عام. ولكن وبعد سنوات قليلة تلاشى هذا الحلم، فروسيا من جهة أدركت أنه على رغم إمكاناتها الكبيرة، فهي لا يمكن أن تكون بديلاً عن المملكة التي تنفرد بطاقة إنتاج إضافية تتجاوز المليوني برميل. ومن جهة أخرى فإن مداخيل النفط الكبيرة التي حققتها روسيا وأثرها في تعزيز النزعة الاستقلالية وخطاب التحدي لموسكو جعل الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي يتخليان عن فكرة الاعتماد على الدب الروسي لتسيير عجلة اقتصادياتهم. على رغم ذلك، فإن روسيا تبقى مصدراً مهماً من مصادر الطاقة، فحجم إنتاجها يتجاوز في بعض الأوقات الإنتاج السعودي، كما أنها في مقدم منتجي الغاز الطبيعي الذي ينافس النفط كمصدر للطاقة، والمأمول هو أن ينسق العملاقان النفطيان سياساتهما بما يخدم مصالحهما الوطنية أولاً، ويعزز استقرار الاقتصاد العالمي من زاوية استمرار تدفق آبار النفط بما يحول من دون أزمات حرجة. هناك جانب أكثر أهمية للعلاقات الروسية مع المملكة، ويتعلق برغبة موسكو في انتقال النظام الدولي من حال الانفراد والهيمنة التي لا ينفك الرئيس بوتين عن نقدها وتحميلها مسؤولية عدم الاستقرار والاضطراب التي يشهدها العالم، إلى نظام متعدد يقوم على التحرك الجماعي لمعالجة القضايا الدولية الكبرى المؤثرة في مسألتي الأمن والاستقرار العالمي. وقد جرت العادة أننا حين ننظر في قضية التحول في النظام الدولي نقصر تفكيرنا على الدول الكبرى التي تتمتع بعناصر القوة التقليدية المتمثلة في القوة العسكرية والاقتصادية والبشرية والموارد الطبيعية ونحوها. ولا شك أن هذا أمر طبيعي، فالتحولات الكبرى لا تقدر عليها سوى الدول الكبرى، إلا أن طبيعة النظام الدولي الراهنة ونتيجة العولمة وما أحدثته من اندماج وتصادم وتغيير في معاني القوة ومصادرها سمح لدول لا تمتلك تلك الصفات التقليدية للقوة بأن تلعب أدواراً مهمة في إعادة تشكيل النظام الدولي. المملكة هي إحدى تلك الدول فهي ليست قوة دولية بالطبع إلا أنها تتجاوز وصف ومكانة القوة الإقليمية. إذ إن دورها وتأثيرها يمتد خارج حدود الشرق الأوسط، وما قالته المستشارة الألمانية، الشهر الماضي، بأن"كلمة المملكة مسموعة في العالم"يؤكد ذلك. فمثل هذا الوصف ليس من المجاملة الديبلوماسية، بل يعبر عن انطباع قد يصل إلى الاعتقاد لدى شخصية بمكانة المستشارة وغيرها من القيادات العالمية التي تقدر دور المملكة وتحرص على مشاركتها في معالجة الكثير من القضايا العالمية. كثيرةٌ هي المؤشرات على هذا الحضور السعودي المهم على الساحة الدولية، ولكن المؤشرات ذات الطابع الرمزي أكثر دلالة. وهنا نُذكّر بقدرة المملكة على الجمع بين احترام وتقدير زعامات تتسم العلاقة بينهم بالعداوة الشديدة. فالمملكة، التي تحظى بتقدير من الرئيس الأميركي جورج بوش لها، تتمتع في الوقت ذاته بقدر كبير من الاحترام من ألد خصومة، وهما الرئيسان الإيراني أحمدي نجاد، والفنزولي هوغو شافيز. ليس سهلاً لدولة أن تجمع بين تقدير واحترام أطراف متخاصمة، وهذا بلا شك يعكس مكانة المملكة التي لا تحصرها حدود الشرق الأوسط. هذه المكانة لها ثلاثة مصادر مهمة هي: 1 - موقعها الريادي في العالم الإسلامي. 2- دورها في الاقتصاد العالمي. 3 - حسن تعاملها مع هاتين القوتين بشكل عقلاني وواع ومدرك لأثرهما الخطير في العلاقات الدولية. هذا العنصر الثالث في قصة المكانة السعودية والحضور المميز على الساحة الدولية قليلاً ما يذكر، حيث يكتفى دائماً بالإشارة إلى العنصرين الأول والثاني، إلا أن ما لا يدركه الكثير من المراقبين أن قيمة القوة الدينية والنفطية تتمثل في كيفية التعامل معهما وتوظيفهما بالشكل الذي يخدم مصالح الدولة المباشرة ويعزز أهدافها الاستراتيجية التي تتجاوز حدودها الوطنية. وأمامنا شواهد مهمة على إثر سوء الإدارة وغياب التعامل الحكيم مع مصادر القوة سواء كانت مادية أم معنوية، فنفط العراق وثورة الخميني الإسلامية تحولا إلى عبء ومصدر ضرر على الدولتين. وعودة إلى قيمة عناصر القوة هذه التي تتمتع بها المملكة بالنسبة إلى روسيا ورغبتها في إعادة تشكيل النظام الدولي والتحول نحو نظام متعدد الأقطاب بدلاً من الأحادية. هنا يمكن لنا القول أن من أبرز المحركات لهذا التحول، قضية التعددية الثقافية في العالم وجعلها مصدراً للسلام بدلاً من الصراع كما تنبأ هنتغتون وأظهرته هجمات سبتمبر، والأمر الثاني، هو العولمة الاقتصادية التي تعزز السلام بديلاً عن المواجهة في إطار تصادم المصالح الاقتصادية. هاتان القضيتان تكادان تحددان مستقبل العالم. والمملكة، وبحكم ما تملكه من عناصر قوة دينية ونفطية تستطيع أن تلعب دوراً محورياً في هذا الشأن. فمن جانب، فإن الصدام الثقافي الذي يراد له أن يكون مصدر توتر في العلاقات الدولية يدور بالدرجة الأولى بين المسلمين وبقية العالم، وبحكم ريادتها للعالم الإسلامي فالمملكة قادرة على تجسير الفجوة. ولا شك في أن ذلك يتطلب تحولات كبرى في خطابنا الديني وتوجهاتنا وإعادة تقويم لدورنا العالمي في هذا الشأن. من جهة أخرى، فإن النفط يعد احد أبرز المؤثرات في النمو الاقتصادي العالمي ما يمكن المملكة من لعب دور أساسي باتجاه خلق فضاء اقتصادي عالمي تزداد فيه فرص النمو والمنفعة للجميع، بما يقلل فرص المواجهة بين شعوب مستفيدة وأخرى متضررة من عملية الاندماج الاقتصادي. هذه الأدوار التي يمكن للمملكة لعبها في الشأنين الثقافي والاقتصادي على المستوى العالمي تستطيع أن تسهم في عملية تجفيف - إن صح القول - مصادر الانفراد والهيمنة وأن تنقل الإنسانية إلى مجتمع عالمي متعدد الأطراف متوازن القوى، ومحافظ على تنوعه الثقافي، ويحول دون احتمالات الصدام التي تخدم النزعة الأحادية. إن النظام التعددي لا يمكن أن يكون مستقراً من دون معالجة عميقة لقضيتي العلاقات الثقافية والاقتصادية بين شعوب العالم. وهنا يبرز دور المملكة وفي حال أدركت القيادة الروسية هذه القيمة التي تضيفها المملكة للعالم - كما سبق لها أن أدركت قيمة المملكة للاستقرار داخل روسيا - فلا شك أنها ستسعى إلى الارتقاء بعلاقاتها إلى مستويات استراتيجية. تبقى مسائل أخرى تتعلق بمستقبل العلاقات بعد الرئيس بوتين، وكذلك استحقاقات المملكة من هذه العلاقة، خصوصاً في ما يتعلق بدور روسيا في نزع فتيل أخطر أزمة تواجه المنطقة والمتمثلة في الخلاف على البرنامج النووي الإيراني نتركها للأيام المقبلة لتحكم على واقعية ومعقولية التفاؤل بالطفرة المأمولة في علاقات بين الكرملين وقصر اليمامة. * رئيس قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود