قبل عامين تقريباً أتاحت لي شبكة"نبض الشوارع"فرصة جيدة لقراءة الكثير من الشعراء، وكان عبدالرحمن بن مساعد من ضمنهم. عدت إلى موقع الأمير عبدالرحمن على الشبكة مرات ومرات، وصرت أعود إليه كلما وجدت الوقت. لعبدالرحمن بن مساعد شعبية طاغية، وقد لاحظت أن أكثر معجبيه هم من صغار السن، وقد أكدّ لي أحد أقربائي ذلك قائلاً إن أكثر الشعراء الأمراء شعبية عند الشباب من أصدقائه وزملاءه ومعارفه هو عبدالرحمن بن مساعد. قلت له: تعتقد لماذا؟ قال: بسبب جرأته. اليوم سأتناول جزئية بسيطة في شعره لها جاذبيتها الخاصة بالنسبة إلي كامرأة... وشاعرة، ألا وهي رؤيته لعلاقة الرجل بالمرأة، وسآخذ صورة واحدة من هذه الجزئية في تجربة الأمير عبد الرحمن، وأختار قصيدة"الوداع"التي وجهها إلى زوجته الأميرة البندري بنت هذلول بن عبد العزيز، يقول: ألا يا قلب نبضي يا سما دمي ووجداني في أمان اللي عطاكي كل طهر الأرض أنا ماشي هذا كان آخر ما نطق قلبي وأول نبض في لساني وتلاشى النطق وعصر حزن الوداع اللي حضر قلبك دموع بكت أدفا دموع الخلق وسرى في داخلي برد الخشوع وغير العطر ودموعك وجرحي من وداعك ما بقا لي أستغفر اللي صورك مما طرا لي طرا لي يا دفا عمري ويا ترحالي وحلي أرشف دمعك الطاهر واغسل به واصليّ واحمد ربي اللي بك حباني ألا... يا أم أجمل من سكن قلبي ويا داري وعنواني في أمان اللي عطاكي كل طهر الأرض أنا ماشي. يعرف الرجال والنساء المتزوجون والمتزوجات مواقف كهذه، لحظة الوداع لدواع مختلفة، وسفر الشريك قضية مألوفة، ودموع النساء في مثل هذه المواقف أكيدة، وأية زوجة لا يثير فيها سفر الزوج وفراقه هواجس وخوفاً فتتنازعها الوحشة وتخشى الوحدة حتى لو كثر الناس من حولها؟ وبالنسبة إلى مجتمعاتنا، من الطبيعي أن تجزع المرأة لفراق أليفها وراعي بيتها، لكن هل جزع الزوج ولهفته وألمه شيء مألوف أم أنه يثير الاستغراب؟ من تجربتي... جزع الرجل لفراق زوجته يثير الدهشة في مجتمعاتنا، فالرجال بين مستعجب ومستهجن، والنساء بين مندهشات ومستغربات ومتحسرات. وقد تشهق إحداهن قائلة: وش ها الحظ اللي يكسر الصخر، أو: اللي عطاها بالكريك يعطينا بالملعقة، وقد تقول بدوية: نبي نقطع من طرف شليلها غدي يصح لنا ربع حظها، هذي واسه كبيرة الحظ اللي يبكي عليها الرجل! إذاً... وإذا كان المجتمع العربي بشكل عام يتحفّظ في قضية إظهار الحب والتقدير للزوجة، فما بالك بالمجتمع المعروف عنه تشدده في مثل هذه الأمور. في هذه القصيدة للأمير عبدالرحمن حب يشعر بصدقه وحرارته وعمقه كل من يفهم أسرار اللغة ودلائل الكلم وتراكيب المفردات وصياغة اللفظ. ويدرك أن عاطفة قوية متدفقة حارة وراء هذا الشعر الذي أمامه. ألا يا قلب نبضي هنا يتجلى الشاعر الذي يحقّ له ما لا يحق لغيره من تقديم الألفاظ أو تأخيرها في الجملة خدمة للمعنى المراد، فيجعل التركيب غير المنطقي في الكلام العادي بليغاً مميزاً في الجملة الشعرية، وذا دلالة على إحساس كبير وقوي لا يعبر عنه التركيب المنطقي المعهود للمفردات. ألا يا قلب نبضي يا سما دمي ووجداني والعادة أن يقول الناس نبض قلبي غير أن الشاعر هنا قدّم المفردة الأشد أهمية، والتي هي مصدر النبض على النبض نفسه، في سعي منه لإظهار أقصى ما لديه من عاطفة وإحساس. وقد بادر في بداية الجملة إلى التنبيه، ثم أطلق نداء أتبعه بالكثير من العاطفة وتأكيد قيمة الزوجة الحبيبة. ألا... يا... قلب نبضي. ثم واجه الحقيقة التي يخشاها كلاهما الوداع، ولكي يخفف عليها وعلى نفسه وطأة الموقف حاول أن يهون عليهما معاً بقوله بدءاً في أمان اللي عطاكي كل طهر الأرض هنا استدعاء لروح الإيمان والتوكل على الخالق، ويشعر كلاهما أنها هي أمانة لدى الإله الذي لا تضيع الأمانات عنده، لكي تهدأ نفس الحبيبة ونفس المحب لها. ثم أكد ثقته المطلقة بها، وبأنها تملك كل طهر الأرض. ويقول مسترجعاً المشهد: هذا كان آخر ما نطق قلبي وأول نبض في لساني وتلاشى النطق إذاً، أول الكلام وآخره اختُصر في جملة واحدة قالت كل شيء، ثم: عصر حزن الوداع اللي حضر قلبك دموع وهنا تعبير دقيق في صورة شديدة الوضوح، أرانا إياها الشاعر: قلبها يعصره الوداع حزناً فيتساقط الدمع، ومن المعروف لغة أنه لا يُعصر إلا الشيء الذي فيه سائل، والقلب بحياته وحيويته وماء الحياة النابض فيه من المؤكد أن عصره حزناً سينتج منه الدمع. وأي دمع؟! إنه أدفأ دمع، وفي تناقضية شديدة الحساسية يصف لنا الشاعر كيف أن دمعها على دفئه وسخونته جعل البرد يسري في داخله، فما هو هذا البرد الذي يبعثه الدمع السخين؟ إنه برد الخشوع، وهنا لا يصبح التعبير مقبولاً فقط، بل مستساغاً ومميزاً، ويأخذنا الشاعر إلى حكاية النار التي تصبح برداً وسلاماً، ثم يستذكر ما علق في حواسه من تلك اللحظة، ويتذكر: العطر شم الدموع نظر جرحي إحساس ثلاث حواس تركت أثرها في وجدانه، وفي تلك اللحظة التي زلزلت كيانه وهاله منظر الدمع في عيني حبيبته طاش الجزع بعقله للحظة، وكاد يرتكب فعلاً لا يصدر إلا عن مسلم عاقل: "أرشف دمعك الطاهر". ورشف الدمع قضية تحتمل العذر، و?"اغسل به واصلي" وهذه الصدمة التي تصيبنا نحن القراء قد سبقنا ومهّد لها بقوله: "أستغفر اللي صورك مما طرا لي". هنا قدم الشاعر المَخرج اللغوي والفكري والعاطفي على الواقع الصاخب لما نوى القيام به، فلقد نوى لولا أنه استغفر مما طرا له.. نوى أن يغتسل بدمع زوجته ويصلي ويحمد الله أن منحه امرأة مثلها، ثم يؤكد أنها زيادة على حبه العظيم لها تربطه بها صلة لا تقل عظمة وقوة عن الحب، ألا وهي أنها أم ابنه، ثم يشدد على أنها هي داره وهي عنوانه، معاكساً العرف الاجتماعي والعادة التي جرت على أن ليس للمرأة دار إلا دار الرجل، وان عنوانها هو عنوانه، فالرجل هو المالك وصاحب الأمر والمقدم اجتماعياً وقانونياً. وهذا الشعور من الأمير عبدالرحمن نوع من النبل لا يقدر عليه إلا قلة من الرجال، ممن لديهم تلك الثقة الكبيرة بالنفس، والشجاعة والجرأة، غير عابئين بتفسير المجتمع لهذا العشق ولهذا الشعر. ثم يصل في نهاية النص إلى اللحظة التي عمل على التوطئة لها بكل ما يملك من عاطفة، ألا وهي لحظة الوداع، ثم عاد ليؤكد من جديد الثقة المطلقة بها: "في أمان اللي عطاكي كل طهر الأرض أنا... ماشي". وثقة الرجل الغائب بالزوجة قضية صميمة في عقل أي رجل، بل هي أهم عنده من كل شيء في الدنيا. ومن حياته ذاتها. *** ولي على الصياغة الفنية للنص ملاحظات، فلو أن الشاعر قال كلمة نهر بدل يا سما، في جملته الشعرية التالية: "يا سما دمي ووجداني"لكان أجمل وأبلغ تعبيراً. لأن الدم والنهر يجمعهما الجريان، ولأن النهر يجمعه مع الوجدان شبهه بالعروق والأوردة المتعلقة بالقلب، كما تجمعهما الحركة والتدفق، وكون النهر والوجدان كلاهما حياة، أما الدم والسماء فلا يجمعهما أي رابط من أية ناحية شكلية أو معنوية، ولا حتى لونية، ما جعل كلمة سماء تبدو غريبة وغير مستساغة فنياً ومعنوياً، كما أن قوله: "أرشف دمعك الطاهر واغسل به واصلي"لم يكن في مكانه، فلو أنه رشف الدمع شربه لما بقي منه شيء لكي يغتسل به، كما ان نية الرشف لا تلتقي مع نية الغسل، ولو قال أجمع دمعك الطاهر... لكان أصح. *** بشكل عام القصيدة مميزة وجميلة من نواح عدة، كما سبق أن ذكرت، ومنها: - مخالفتها العرف الاجتماعي وتكريمها المرأة. - الوفاء للحبيبة والنبل. - الطاقة الروحية الكبيرة في القصيدة. - حرارة العاطفة التي غطت على بعض الهفوات الفنية في النص. تُذكّرنا هذه القصيدة بيتيمة ابن زريق البغدادي عندما ترك زوجته في بغداد قاصداً الأندلس، وقال فيها قصيدة تعد من روائع الشعر العربي، أذكر منها بيتين يصف فيهما بكاءه وبكاءها عند الوداع قائلاً: وكم تشبّث بي يوم الرحيل ضحى وأدمعي مستهلات وأدمعه ودعته وبودي لو يودّعني صفو الوداد وأني لا أودعه.