كنت في إجازتي عندما سألني أحد زملائي عن سبب غيابي، فقلت مازحاً: ورثت عن جدي جملين جميلين سيما بمليوني ريال، ولم أقتنع بهما وسأعرضهما في مهرجان الإبل المزايين لعلهما يحققان لي ثلاثة ملايين، ففغر فاه مصدقاً دعابتي، وما علم أني لا أملك حماراً أجرب، غير أني أرتاح لمنظر الإبل في رياضها الخضراء مع صغارها... ولست بدعاً في ذلك، فملايين من الناس غيري تسر وهي تنظر لآية من آيات الله، لفت سبحانه الأنظار إليها بقوله:"أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت"لأنها إحدى الآيات الدالة على عظمة الخالق التي بمقدور المخلوق أن يسيطر عليها ويمتلكها وينتفع بها عن قرب ويبادلها الألفة، ولذا أصبحت هواية ومتعة علية القوم، ومجال التنافس بينهم لسهولة عرضها في كل وقت ومكان، مثل هوايات مختلفة أخرى، منها الخيل. وتتعدد أذواق الناس بين محتفٍ بالبقر والإبل، ومحتفٍ بالدجاج والكلاب والحمام والقطط، لكن العرب عُرف عنها من قديم أنها تستعرض سلاحها ومالها وأطيب أموالها"حمر النعم"الإبل، التي هي مفخرة الأنعام، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم"لقد شهدت مع أعمامي حلف الفضول ما أحب أن لي به حمر النعم"، وقد وصفت الناقة في قصيدة الأعشى حينما مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ووصف طرفة الناقة في معلقته، ودائماً ما يطرب الإنسان لأقرب موصوف لديه. ويجد الناس في الاجتماعات المتكررة كل عام فرصاً مناسبة لصلة الرحم، واستعراض ما لديهم من مال ومهارة، لا عن عصبية بل تنافس شريف تزهو به النفوس ويزيدها تفاؤلاً ومواصلة للعمل، وإذا كنا نصم كل اجتهاد بالتشاؤم، فقد نلغي كل المنتديات وتجمعات الأسر ومكافآت الأبناء، لأن ضيقي النظرة يرونها عصبية، والملاحظ في الجريمة والإجرام أن عقوق الوطن بدأ من عقوق الأهل والتمرد عليهم والغياب عن تجمعاتهم، في حين أن حب الوطن يأتي من خلال الأسرة والقبيلة، إذ كيف أحب مكاناً لا أهل لي فيه ولا أكن لهم انجذاباً معيناً، فكان الاجتماع بالأسرة والقبيلة اجتماعاً نظيفاً ونزيهاً وبريئاً وما ينتج عنه من مصالح وتراث وثروة حيوانية هي لمصلحة المجتمع كله وليس خاصاً بأحد، وليس كالاجتماعات السياسية التي تبرر الوسائل أيا كانت للوصول للأهداف. ولذلك لابد من التسليم بأن النسب أياً كان، والقبيلة مهما كانت لا تقدم ولا تؤخر إلا بما يقدمه أفرادها ويرفعهم أو يخفضهم في مجال الأخلاق والعمل الإنساني. هل العنصرية عند من يدلل حيوانه ويبثه أشجانه، وربما لا يستفيد منه قيمة عشائه عند أصحاب القرار، وما الذي لدى المسكين الذي يستدين غداءه وعلف حيوانه من عنصرية، وهو الذي يأكل من كسب يده، إن العنصرية البغيضة هي المهيمنة على المصالح، وهي التي تسرق كسب الأمة وتحوله لولدها وقرابتها. إن الخطر على الوحدة الوطنية ليس من استعراض الحيوانات، بل الخطر هو من استعراض الإقليمية وتحييد الغالبية. لكن السؤال هو: لماذا هذا الاهتمام بالحيوان وإهمال حقوق الإنسان؟ وربما كان الجواب لأن العمل في المجال الحيواني مهيأ وسهل ولا يثير أحداً، أما العمل مع الإنسان فهو مكلف ومقلق، فالحيوان غير مزعج، أما حقوق الإنسان فستقض مضاجع، وتشير إلى لصوص وتنبه إلى مسروقات، وهناك من يرى أن في إبقاء الإنسان في المربع الأول سلامة للغش والاحتكار. وأين المؤسسات المدنية؟! وهل من دور لها لتستوعب هوايات الناس وتحقق آمالهم التي طالما كانت وراء ملتقياتهم وما يجتمعون لشأنه، وبحث خاصة أحوالهم والنظر في ما يعود على اختصاصهم بالفائدة، فكان لغياب المؤسسات المدنية المختلفة هذا التزاحم غير المخطط له، المسند لمن قد يسيء له، لكن المشكلة أن المثقفين صاروا في آباط أصحاب الأموال، والعوام يتوجهون بهم بحسب ما يريدون منهم، والسبب أيضاً غياب المؤسسات المدنية التي تستوعب هؤلاء المثقفين الذين وجدوا أنفسهم فارغين إلا للدعاية للحيوان والعصبية. ليس للعصبية مجال في ظل الإسلام وعموم المعرفة، إنما هو تنافس في الخير وبذله والثقافة ومداها وجميل الصفات وعالي الأخلاق، أما العصبية فزالت إلى الأبد، لأن العقول ليست ضيقة، كما كان سابقاً، بل العيش اليوم على مستوى دولي، وكل ما يحدث يتضح أمام أنظار العالم في لحظته وتبثه قنواته من موقعه، فليس لرديء الأخلاق من قبول ولا للنرجسية من مكان في عصر العلم والحوار وتلاقح الأفكار. إن العصبية الممقوتة حينما أعلن تميز جنسي على الآخرين، وأفضلهم على من عداهم، وأبتز مصالح الجميع وأقدمها لطائفتي والشأن"إن أكرمكم عند الله أتقاكم"فالمقدم هو ذو الخيرية وذو الدور الإيجابي في المجتمع القائم على العمل المثمر للإفراد، أما الطعن والتفاخر بالأنساب فهو من أعمال الجاهلية ف"من أبطأ به عمله لم يرفعه نسبه"، والإنسان لا يعلو به إلا عقله ومنطقه وعمله وخلقه، فأبو جهل انحدر به عمله ولم يرفعه نسبه، وبلال الحبشي صار له المقام الأعلى بإيمانه، وسلمان الفارسي كان له الشأن ليده في الإسلام، وعطاء بن أبي رباح المولى الذي كسد في سوق العمل وربح في سوق العلم، فكان يتحلق حوله المئات ليسمعوه، ويجله الأمراء حينما يرونه، ويكبره العوام عندما يدخل عليهم. ولعل مهرجانات الإبل تدخل في باب المحافظة على الأصالة، وهي مظاهر تراثية متعددة الألوان، يتقبلها الجمهور لتنوعها ومشاهدة الشيء المختلف، وألا يكون كل المجتمع مائعاً في بوتقة واحدة، بل يكون لكل مجتمع طابعه المميز، فهم في النهاية مبدعون تعددت جداولهم لتصب في نهر واحد. فلنتنافس بشرف في الخير، ولنعمل بوفاء، ولنفتح كل السبل لتستوعب كل جهودنا وطموحاتنا العاملة لمصلحة الجميع، ونغلق كل العصبيات والاحتكارات والمنافع الموجهة لطائفة من دون غيرها من ذوي الحقوق، وليكن الخير عاماً والشر مغلقاً، ولا نتخذ من مناسباتنا ساحات عنصرية. دعوا أهل الإبل والبقر والقلم يكتبون ويقدمون تجربتهم لمصلحة أمتهم، ودعوا غيرهم يمدنا بكل نافع مفيد. ولتكن أهداف مناسباتنا واضحة وتصب في جداول نفعنا العام، ولنسمح بكل جهد خلاق وإبداع مميز، بشرط ألا نلغي الآخرين ولا نثير العصبيات، ولا نعيد مفاخر الجاهلية، أو نمتدح الأعمال الإرهابية، ولنشجع التنافس في العلم والإنتاج ولنفتح المجال للمؤسسات المدنية التي تخدم كل فئات المجتمع. [email protected]