بعد ستة أشهر من الآن سيكون لمصر رئيس منتخب بإرادة شعبية حرة، وسيعود الجيش إلى ثكناته، وستخلو الساحة من المجلس العسكري، الذي يحكم البلاد منذ تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك في 11 شباط (فبراير) من العام الماضي، وعندها ستخضع فترة الحكم العسكري للتقويم الدقيق، وسيحكم التاريخ على 19 من كبار قادة الجيش المصري هم أعضاء المجلس ورئيسه، لكن الفترة المتبقية لن تخلو من المعضلات والإيجابيات والسلبيات... والأخطاء. وأحد أكبر أخطاء المجلس أنه سعى إلى إدارة الفترة الانتقالية من دون أن يُغضب أياً من أطراف اللعبة السياسية، فأغضبها جميعاً، وفي كل مرة وكأنه يُفاجَأ بعدم رضى هذا الطرف أو ذاك عن قراراته أو أفعاله، ولو كان المجلس اعتمد الإدارة الرشيدة لمصر بعد الثورة منذ تسلمه السلطة وحتى تسليمها إلى حكم مدني، بغض النظر عن مسألة الرضى أو الرفض لتفادى كثيراً من المشاكل التي وقعت، وتلك التي ستقع، ولو كان أدرك أن القوى التي احتشدت وتوحدت أثناء الثورة واتفقت على إسقاط النظام ستختلف بحسب أفكارها ومبادئها ومصالحها حول بناء الدولة لعرف أن المهم أن يتخذ القرار الصحيح من دون أن يضع دائماً في حساباته ضرورة إرضاء هذا الطرف أو ذاك. أبعد المجلس مبارك عن الحكم استجابة للثورة فأغضب «فلول» النظام... وأبقى مبارك في شرم الشيخ فأثار حفيظة الثوار، فحاول إرضاءهم وأحال مبارك وبعضاً من رموز حكمه على المحاكمة، فزاد من غضب «الفلول»، لكنه نقل مبارك إلى المركز الطبي من دون أن يسجنه فاستفز الثوار من دون أن يُرضي «الفلول»... وسعى إلى كبح جماح «الإخوان» فاختار واحداً منهم في لجنة الإعلان الدستوري فأثار نقمة القوى المدنية، ثم حاول إرضاءها بوثيقة السلمي، فانقلب عليه الإخوان... تفادى الدخول في صدامات متلاحقة مع البلطجية فانتشروا وأشاعوا الذعر والفزع، وحين وقعت مواجهات عقب المليونيات في التحرير أو قرب الميدان وحوله وقع في المحظور وضرب الثوار... والنساء! خاض العسكر معارك مع كل القوى السياسية والثورية والمنظمات الحقوقية وبعض الجهات الخارجية بسبب قانون الطوارئ، وأصرَّ على مواصلة العمل بالقانون بعد الثورة، ولم تتوقف الانتقادات للقانون إلا بعد ما صار مجرد حبر على ورق وغير قابل للاستخدام على الأرض، لأن أعداد من يخرقونه تفوق قدرة العسكر على التعامل معهم، ولو كان المجلس العسكري درس الأمر جيداً، ووصل إلى حقيقة مفادها أن الناس تغيرت، وأن أحداً لم يعد يخشى قانوناً للطوارئ، لبادر إلى إلغاء العمل بالقانون، وأنهى حالة الطوارئ المعمول بها منذ مجيء مبارك إلى السلطة عام 1981. والأمر نفسه تكرر حين مرَّر المجلس العسكري قانوناً لمنع التظاهر والاعتصام إذا ما تسبب في تعطيل أجهزة حكومية عن أداء دورها أو تسبب في إيذاء المواطنين أو هدد الممتلكات الخاصة، وتعرض العسكر وقتها لانتقادات حادة وعواصف هوجاء على أساس أن الاعتصام والاحتجاج والتظاهر والإضراب كلها حقوق لم يعد المواطن المصري يُفرِّط فيها بعد الثورة، المهم أن المجلس العسكري لم يستطع يوماً أن يُطبق قانونه الذي دافع عنه وأصرَّ عليه، بل تَفشَّت ظاهرة التظاهرات الفئوية أمام المصالح الحكومية والمصانع والشركات وفوق خطوط السكك الحديد، وعندما اختار العسكر الدكتور كمال الجنزوري رئيساً لحكومة إنقاذ، وجرى الاعتصام أمام مقر الحكومة لمنعه من دخول مكتبه، لم يفضّ الاعتصام إلا بالقوة ما أثار موجة من العنف والغضب لم تنتهِ آثارها حتى الآن. ولأن الحديث عن «التمويل الخارجي» للنشطاء والحركات والجماعات والمنظمات الحقوقية ظل يتردد منذ تفجر الثورة، فإن كثيراً من الجهات، وبينها قوى ثورية، طالبت العسكر مراراً بأن يكشفوا ما لديهم من حقائق أو وثائق أو أوراق، وعندما استجاب المجلس العسكري اختار أيضاً أن يأتي الإجراء في الاتجاه الخاطئ عبر مداهمة مراكز حقوقية تعمل منذ فترة من دون أن تتعرض لها أي جهة، ولأن الإجراء جاء في اليوم نفسه الذي صدر فيه حكم ببراءة رجال شرطة في قضية قتل المتظاهرين في حي السيدة زينب، وبعد يوم من مشاهدة مبارك على سريره، وابنيه وأركان حكمه الذين يحاكمون في قاعة أكاديمية الشرطة، فإن الإجراء فُسِّر على أنه ضمن حملة لإجهاض الثورة، وفتح المجلس العسكري على نفسه جبهة جديدة بعدما أغضب الغرب من الأميركان والأوروبيين، وهو لم يحسم بعد الجبهات التي كان فتحها في الداخل مع القوى الثورية والأحزاب التقليدية والإخوان والقوى المدنية وأهالي الشهداء!! وعلى رغم أن الاتهامات تتردد منذ شهور عن أدلة ووثائق لدى السلطات المصرية تُدين تلك المراكز بمخالفة القانون واختراقه إلا أن ما خرج من التحقيقات حتى الآن لا يشير إلى أن قرار المداهمة لا يعكس موقفاً قوياً، بل إن حدة ردود الفعل الأميركية والأوروبية جعلتنا نتوقع تراجعاً عنه ليستمر النهج نفسه، وكأن العسكر يختارون دائماً أن يضعوا أنفسهم في موقف المخطئين!