سيجد سكان الحدود الفاصلة بين السعودية واليمن على امتداد 1800 كيلو متر تقريباً أن شؤون تنقلاتهم بين البلدين أكثر يسراً وتنظيماً خلال أسابيع بعد التوقيع النهائي أول من أمس على خرائط الحدود الدولية ورفعها معتمدة إلى هيئة الأممالمتحدة لحفظها والعمل طبقاً لبنودها. وهذه النقلة النظامية في تسهيل حركة سكان الحدود تعني لهم الكثير، حيث مصالحهم اليومية المتشابكة تتطلب سرعة إنهاء الإجراءات النظامية المعتادة. وعلى المدى الجغرافي والشعبي والاقتصادي الأكثر بعداً عن الحدود الثنائية، حظيت، على سبيل المثال، مدينة المكلا التي تعد حاضرة منطقة حضرموتجنوب شرق اليمن بدفعة منعشة من المشاريع الإنمائية الجديدة بأثر فوري لتوقيع المعاهدة التاريخية في منتصف العام 2000، إذ أنشئت الطرقات الجديدة والمرصوفة، وعبرت سيارات سكان المكلا جسوراً تنقلهم بين ضفتي"شرم اصطناعي"من ماء البحر أعطى للمدينة الساحلية الصغيرة نفحة من الجمال على شواطئ بحر العرب. كان مشهد العلاقة الثنائية بين السعودية واليمن طوال سبعة عقود مضت يحمل أكثر من نقطة انغلاق مزعجة لبلدين جارين ومعطلة لمصالح عدد غير قليل من الناس. جاءت زيارة ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران المفتش العام الأمير سلطان بن عبدالعزيز الأسبوع الماضي إلى المكلا متممة لما تم الاتفاق عليه في معاهدة جدة، حيث اكتملت الخطوات القانونية لنقل العلاقة السعودية - اليمنية إلى آفاق جديدة ومفتوحة على كل مجالات التعاون المفيد لشعبي البلدين. ستتحول الحدود الدولية بعد توقيع الخرائط النهائية أول من أمس في مدينة المكلا الحضرمية إلى جسور تواصل بدلاً من حدود طبيعتها القانونية الفاصلة بين جارتين. إذ شملت معاهدة جدة التاريخية جملة من الالتزامات الثنائية لتكريس التعاون والتواصل بين مؤسسات البلدين وشعبيهما في سهولة أكثر وبأقل الإجراءات"البيروقراطية". سيحظى أعضاء اللجان الفنية بفترة طيبة من الراحة الذهنية بعد مفاوضات شاقة حول تفاصيل معقدة لضمان سيادة شعور الاطمئنان لكلا الطرفين مستقبلاً، بما لا يدع مجالاً للشك أو التراجع عما تم الاتفاق عليه ورفعه مُعتمداً إلى هيئة الأممالمتحدة. وبما أن البلدين قطعا مرحلة طويلة اتسمت بإمكان الخلاف على المسائل الحدودية في أي وقت ومن دون مقدمات، يجب التأكيد، بحسب حكماء السياسة اليمنية، أن الموقف السعودي لم يخرج على الأعراف الأصيلة التي تغلب لغة العقل والمنطق بما فيه مصلحة الشعبين قبل أي مكاسب"مشروعة"ربما تعمق فجوة عدم الفهم المشترك. ومن اللمحات الأخيرة لإدارة الملف الحدودي ومسائله الشائكة بترو وحكمة، كان موقف خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز في شهر رمضان قبل 11 عاماً وبإشراف مباشر من ولي عهده، في ذلك الوقت، والنائب الثاني، وتشجيعهم للخطوة المهمة بالتوافق على مذكرة تفاهم مكثفة تقود إلى إنهاء الملف الحدودي بخطوات قانونية مثمرة للجانبين. "مذكرة الخير" كان إعلان التوقيع على مذكرة التفاهم السعودية - اليمنية في رحاب مكةالمكرمة في ليلة 27 رمضان قبل عقد، بشرى خير لكل مخلص ومحب ومتفائل بالخير للبلدين وشعبيهما، وخيبة أمل مزعجة للمتربصين والمنتفعين من استمرار الوضع الحدودي معلقاً. واتفق مسؤولو الحكومتين المعنيون بملف العلاقات الثنائية على تسمية مذكرة التفاهم تلك، مجازاً، ب"مذكرة الخير"، حيث اتفق الطرفان في حينه، على ما يلي: المادة الأولى: يؤكد الطرفان تمسكهما بشريعة وشرعية وإلزامية معاهدة الطائف، الموقعة في 6/2/1353ه الموافق 20/5/1934م، وملاحقها، وهي المعروفة باسم معاهدة الطائف التي يشار اليها لاحقاً باسم المعاهدة. المادة الثانية: تشكل لجنة مشتركة بعدد متساوٍ من الطرفين مهمتها تجديد العلامات المقامة، طبقاً لتقارير الحدود الملحقة بالمعاهدة الموجودة منها والمندثرة وذلك ابتداء من نقطة الحدود. رصف البحر شمال الرأس المعوج واستخدام الوسائل العلمية الحديثة في إقامة العلامات السارية عليها مع الاتفاق مع شركة متخصصة لتنفيذ ذلك وتقوم الشركة بعملها تحت إشراف اللجنة. المادة الثالثة: تستمر اللجنة الحالية المشكلة من البلدين في عملها لتحديد الإجراءات اللازمة والخطوات التي تؤدي إلى ترسيم ما تبقى من الحدود وبدءاً من جبل السار وحتى الحدود بين البلدين بما في ذلك الاتفاق على كيفية التحكم في حالة الاختلاف بين البلدين. المادة الرابعة: تشكل لجنة مشتركة تتولى التفاوض بشأن تعيين الحدود البحرية طبقاً للقانون الدولي ابتداء من نقطة الحدود على ساحل البحر الأحمر المشار إليها في المادة الثانية أعلاه. المادة الخامسة: تشكل لجنة عسكرية مشتركة رفيعة المستوى من الطرفين لضمان منع أي استحداثات أو تحركات عسكرية أو غيرها وذلك على الحدود بين البلدين. المادة السادسة: تشكل لجنة وزارية مشتركة لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية بين البلدين وتعزيزاً لأوجه التعاون بينهما، وتبدأ هذه اللجنة عملها خلال ثلاثين يوماً من تاريخ التوقيع على هذه المذكرة. المادة السابعة: تعيين لجنة عمليات مشتركة للعمل على تحقيق ما سبق وتسهيل مهمات اللجان المسؤولة وإزالة ما قد يعترض سبيلها من معوقات أو صعوبات. المادة الثامنة: يؤكد البلدان إلتزام كل منهما بعدم السماح باستخدام بلاده قاعدة ومركزاً للاعتداء على البلد الآخر أو بالقيام بأي نشاط سياسي أو عسكري أو إعلامي ضد الطرف الآخر. المادة العاشرة: ليس في هذه المذكرة ما يتضمن تعديلات لمعاهدة الطائف وملاحقها بما في ذلك تقارير الحدود. المادة الحادية عشرة: يتم ضبط وتدوين كل ما يتم بحثه في اللجان المذكورة في محاضر يوقع عليها من قبل مسؤولين. المسؤولية من الجانبين: تم التوقيع على هذه المذكرة في مكةالمكرمة في يوم 27/9/1415ه الموافق 26/2/1995م وتصبح نافذة من تاريخ تبادل وثائق التصاديق عليها عن حكومة المملكة العربية السعودية المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين إبراهيم عبدالله العنقري، وعن حكومة الجمهورية اليمنية نائب رئيس الوزراء ووزير التخطيط والتنمية، رئيس الوزراء حالياً، عبدالقادر باجمال. صباح الاثنين ال 16 من شهر ذي الحجة 1415 ه تسلم وزير الخارجية اليمني عبدالكريم الأرياني، رئيس الوزراء فيما بعد، تصديق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز"رحمه الله"على مذكرة التفاهم بين حكومتي المملكة العربية السعودية والجمهورية اليمنية التي وقعها الجانبان في شهر رمضان من ذلك العام. ردود الفعل بعد أقل من شهر ركب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح طائرته ليصل إلى مطار الملك عبدالعزيز في جدة في السادس من حزيران يونيو 1995 ويلتقي بالملك فهد"رحمه الله"، حيث تناولت الزيارة العلاقات الثنائية وسير المفاوضات الحدودية بينهما وسبل الدفع بها إلى الأمام لتحقيق آمال وتطلعات شعبي البلدين. وفي اليوم الثاني من الزيارة التقى الرئيس علي صالح في مقر إقامته في قصر الضيافة في جدة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الذي يعد مهندس العلاقات الثنائية بين البلدين. وبعد ذلك بساعات، أعلن الرئيس صالح إلى مواطنيه المقيمين في جدة عن اتفاقه مع الملك فهد"رحمه الله":"على إزالة كل المعوقات والقيود التي شابت العلاقات في الفترة الماضية"، موضحاً أن زيارته للمملكة تأتي في إطار احتواء كل الخلافات التي تعترض عمل اللجان الحدودية المشتركة. وفي اليوم ذاته، اجتمع الوفدان السعودي برئاسة وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل واليمني برئاسة عبدالكريم الأرياني لتنفيذ ما وجه به الملك فهد - رحمه الله - والرئيس علي صالح ولمتابعة خطوات تنفيذ مذكرة التفاهم بين البلدين. البيان الختامي لزيارة الرئيس اليمني أكد التزام البلدين بمذكرة التفاهم الموقعة بينهما وعلى توفير سبل النجاح للجان التي تم تشكيلها بمقتضى المذكرة. كما أكد البيان على العمل على إزالة كل العوائق التي تعرقل حركة التجارة والاستثمار والنقل وفقاً للأنظمة النافذة في البلدين. وكان هذا البيان بمثابة الإشارة لانطلاق أعمال اللجنة الوزارية المشتركة واللجان الأخرى المنبثقة عن مذكرة التفاهم، حيث سارت اجتماعات تلك اللجان بانتظام متبادل بين الرياضوصنعاء من خلال عمل مضن وجهود مشتركة لحل مسألة الحدود التي كانت الروابط الأخوية والعلاقات المتجذرة بين البلدين هي الأرض الصلبة التي تقف عليها تلك اللجان في عملها ومشوارها التفاوضي الطويل والشاق الذي حقق هدفه المأمول. في 24 من شهر رجب عام 1416ه عقدت اللجنة العليا السعودية المشتركة اجتماعاً برئاسة الأمير سلطان ورئيس مجلس النواب اليمني الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في العاصمة الرياض. الخطوات اللاحقة للمعاهدة زار الأمير سلطان على رأس وفد رفيع المستوى العاصمة اليمنية صنعاء في العام 1996 وسط حفاوة وترحيب كبيرين، حيث استقبله الرئيس صالح. في حين ترأس الأمير سلطان الاجتماع الثاني للجنة السعودية اليمنية العليا المشتركة الذي عقد في صنعاء. وفي نطاق الزيارة دشن الأمير سلطان مشروع مستشفى لحجة الذي تحملت السعودية نفقات إنشائه بكلفة 50 مليون ريال وطاقته السريرية يمكن رفعها من خمسين إلى 100 سرير. وكان للأمير سلطان لمسة إنسانية أضافها على المشروع بإعلانه التبرع لإنشاء وحدة متكاملة لغسيل الكلى، وبناء طريق بعشرة ملايين دولار. بحسب ما روى ل"الحياة"رجل الأعمال اليمني محمد عبده سعيد الذي حمله الأمير سلطان أمانة الإنفاق على المشروع بأفضل الامكانات. كما أن لزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حينما كان ولياً للعهد، إلى العاصمة صنعاء في منتصف العام 1998 للمشاركة في احتفالات اليمن بالذكرى العاشرة للوحدة بين الشطرين الشمالي والجنوبي، أثراً قوياً في حل الملف الحدودي. خصوصاً وأن الوفد المرافق ضم كبار الشخصيات السعودية يتقدمهم الأمير سلطان.ولم تمض أكثر من سنتين حتى جاء الرئيس اليمني إلى جدة في زيارة كانت نتائجها مفاجأة من النوع المثير للمجتمع الإقليمي والدولي، حيث أعلن رسمياً عن توقيع معاهدة جدة لترسيم الحدود الدولية بين البلدين بطريقة تضمن مصالح الطرفين. وعلى رغم تأكيد المسؤولين اليمنيين بأنهم حصلوا على الكثير من الفوائد الرسمية والشعبية بعد توقيع المعاهدة، فإن الجانب السعودي لم يتطرق إلى أي أعباء تحملها. بل على العكس كان المسؤولون السعوديون يؤكدون على هدفهم الرئيس بأن يعيش المواطن اليمني في فسحة من أمره لتدبير عيشه بكرامة واستقرار. وبموجب المعاهدة زادت الأراضي اليمنية 40 ألف كيلو متر، فيما ضخت ملايين الريالات في المشاريع التنموية لجميع المناطق المحلية.